الأول : الظلام مبالغة في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم إذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كاذباً كثر كذبه، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب لجواز أن يقال فلان ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً ففي قوله تعالى :﴿وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ﴾ لا يفهم منه نفي أصل الظلم والله ليس بظالم فما الوجه فيه ؟
نقول : الجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر وحينئذ يكون اللام في قوله :﴿لِّلْعَبِيدِ﴾ لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم، وهذا وجه جيد مستفاد من الإمام زين الدين أدام الله فوائده. والثاني : ما ذكره الزمخشري وهو أن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول : لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم، وأما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً، ويحقق هذا الوجه / إظهار لفظ العبيد حيث يقول :﴿وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي في ذلك اليوم الذي امتلأت جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق لي طاقة بهم، ولم يبق في موضع لهم فهل من مزيد استفهام استكثار، فذلك اليوم مع أني ألقي فيها عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم وهذا مناسب، وذلك لأنه تعالى خصص النفي بالزمان حيث قال : ما أنا بظلام يوم نقول : أي وما أنا بظلام في جميع الأزمان أيضاً، وخصص بالعبيد حيث قال :﴿وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ولم يطلق، فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق، فلم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت، وفي حق غير العبيد وإن خصص والفائدة في التخصيص أنه أقرب إلى التصديق من التعميم. والثالث : هذا يدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه/ لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه نفي كونه ظالماً، ونفي كونه ظلاماً للعبيد، ولم يلزم منه نفي كونه ظلاماً لغيرهم، كما قال في حق الآدمي :﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه ﴾ (فاطر : ٣٢).
البحث الثاني : قال ههنا :﴿وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ من غير إضافة، وقال :﴿وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ﴾ (النمل : ٨١)، ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ﴾ (فاطر : ٢٢) على وجه الإضافة، فما الفرق بينهما ؟
نقول الكلام قد يخرج أولاً مخرج العموم، ثم يخصص لأمر ما لا لغرض التخصيص، يقول القائل : فلان يعطي ويمنع ويكون غرضه التعميم، فإن سأل سائل : يعطي من، ويمنع من ؟
يقول : زيداً وعمراً، ويأتي بالمخصص لا لغرض التخصيص، وقد يخرج أولاً مخرج الخصوص، فيقول فلان يعطي زيداً ماله إذا علمت هذا فقوله :﴿وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ﴾ كلام لو اقتصر عليه لكان للعموم، فأتى بلفظ العبيد لا لكون عدم الظلم مختصاً بهم، بل لكونهم أقرب إلى كونهم محل الظلم من نفسه تعالى، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فكان في نفسه هادياً، وإنما أراد نفي ذلك الخاص فقال :﴿وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ﴾ وما قال : ما أنت بهاد، وكذلك قوله تعالى :﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه ﴾ (الزمر : ٣٦).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٥
البحث الثالث : العبيد يحتمل أن يكون المراد منه الكفار، كما في قوله تعالى :﴿يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِا مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ﴾ (يس : ٣٠) يعني أعذبهم وما أنا بظلام لهم، ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين ووجهه هو أن الله تعالى يقول : لو أبدلت القول ورحمت الكافر، لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين، لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم، فإن كان ينال من لم يأت بما أتى المؤمن ما يناله المؤمن، لكان إتيانه بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد فائدة، وهذا معنى قوله تعالى :﴿لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ﴾ (الحشر : ٢٠)، ومعنى قوله تعالى :﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر : ٩)، وقوله تعالى :﴿لا يَسْتَوِى الْقَـاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ﴾ (النساء : ٩٥) ويحتمل أن يكون المراد التعميم. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٥
١٤٥