جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥١
١٥٢
ثم قال تعالى :﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا﴾.
لما أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم، أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المهلك والإهلاك المدرك، وبين لهم حال من تقدمهم، وقد تقدم تفسيره في مواضع، والذي يختص بهذا الموضع أمور. أحدها : إذا كان ذلك للجمع بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل، فلم توسطهما قوله تعالى :﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ إلى قوله :﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق : ٣١ ـ ٣٥) نقول ليكون ذلك دعاء بالخوف والطمع، فذكر حال الكفور المعاند، وحال الشكور العابد في الآخرة ترهيباً وترغيباً، ثم قال تعالى : إن كنتم في شك من العذاب الأبدي الدائم، فما أنتم في ريب من العذاب العاجل المهلك الذي أهلك أمثالكم، فإن قيل : فلم لم يجمع بين الترهيب والترغيب في العاجلة، كما جمع بينهما في الآجلة، ولم يذكر حال من أسلم من قبل وأنعم عليه، كما ذكر حال من أشرك به فأهلكه نقول لأن النعمة كانت قد وصلت إليهم، وكانوا متقلبين في النعم، فلم يذكرهم به، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به، وأما في الآخرة، فكانوا غافلين عن الأمرين جميعاً، فأخبرهم بهما.
الثاني : قوله تعالى :﴿فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ﴾.
في معناه وجوه. أحدها : هو ما قاله تعالى في حق ثمود :﴿الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ (الفجر : ٩) من قوتهم خرق الطرق ونقبوها، وقطعوا الصخور وثقبوها. ثانيها : نقبوا، أي ساروا في الأسفار ولم يجدوا ملجأً ومهرباً، وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد أهل مكة، أي هم ساروا في الأسفار، ورأوا ما فيها من الآثار. ثالثها :﴿فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ﴾ أي صاروا نقباء في الأرض أراد ما أفادهم / بطشهم وقوتهم، ويدل على هذا الفاء، لأنها تصير حينئذ مفيدة ترتب الأمر على مقتضاه، تقول كان زيد أقوى من عمرو فغلبه، وكان عمرو مريضاً فغلبه زيد، كذلك ههنا قال تعالى :﴿هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا﴾ فصاروا نقباء في الأرض، وقرىء :﴿فَنَقَّبُوا ﴾ بالتشديد، وهو أيضاً يدل على ما ذكرنا في الوجه الثالث، لأن التنقيب البحث، وهو من نقب بمعنى صار نقيباً.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥٢
الثالث : قوله تعالى :﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾.
يحتمل وجوهاً ثلاثة. الأول : على قراءة من قرأ بالتشديد يحتمل أن يقال هو مفعول، أي بحثوا عن المحيص ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾. الثاني : على القراءات جميعاً استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيص. الثالث : هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد صلى الله عليه وسلّم هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تعتمدون عليه والمحيص كالمحيد غير أن المحيص معدل ومهرب عن الشدة، يدلك عليه قولهم وقعوا في حيص بيص أي في شدة وضيق، والمحيد معدل وإن كان لهم بالاختيار يقال حاد عن الطريق نظراً، ولا يقال حاص عن الأمر نظراً.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥٢
١٥٢
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ﴾.
الإشارة إلى الإهلاك ويحتمل أن يقال هو إشارة إلى ما قاله من إزلاف الجنة وملء جهنم وغيرهما، والذكرى اسم مصدر هو التذكر والتذكرة وهي في نفسها مصدر ذكره يذكره ذكراً وذكرى وقوله لمن ﴿كَانَ لَه قَلْبٌ﴾ قيل : المراد قلب موصوف بالوعي، أي لمن كان له قلب واع يقال لفلان مال أي كثير فالتنكير يدل على معنى في الكمال، والأولى أن يقال هو لبيان وضوح الأمر بعد الذكر وأن لا خفاء فيه لمن كان له قلب ما ولو كان غير كامل، كما يقال أعطه شيئاً ولو كان درهماً، ونقول الجنة لمن عمل خيراً ولو حسنة، فكأنه تعالى قال : إن في ذلك لذكرى لمن يصح أن يقال له قلب وحينئذ فمن لا يتذكر لا قلب له أصلاً كما في قوله تعالى :﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ﴾ (البقرة : ١٨) حيث لم تكن آذانهم وألسنتهم وأعينهم مفيدة لما يطلب منها كذلك من لا يتذكر كأنه لا قلب له، ومنه قوله تعالى :﴿كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ (الأعراف : ١٧٩) أي هم كالجماد وقوله تعالى :﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ (المنافقون : ٤) أي لهم صور وليس لهم قلب للذكر ولا لسان للشكر.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥٢