وقوله :﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ إشارة إلى زلفاً من الليل، ووجه هذا أن النبي صلى الله عليه وسلّم له شغلان. أحدهما : عبادة الله. وثانيهما : هداية الخلق فإذا هداهم ولم يهتدوا، قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الحق. ثانيها : سبح بحمد ربك، أي نزهه عما يقولون ولا تسأم من امتناعهم بل ذكرهم بعظمة الله تعالى ونزهه عن الشرك والعجز عن الممكن الذي هو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب، فإنهما وقت اجتماعهم ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ أي أوائل الليل، فإنه أيضاً وقت اجتماع العرب، ووجه هذا أنه لا ينبغي أن تسأم من تكذيبهم فإن الرسل من قبلك أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا وأوذوا، وعلى هذا فلقوله تعالى :﴿وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ﴾ فائدة جليلة وهي الإشارة إلى ما ذكرنا أن شغل الرسول أمر أن العبادة والهداية فقوله :﴿وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ﴾ أي عقب ما سجدت وعبدت نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود. ثالثها : أن يكون المراد قل سبحان الله، وذلك لأن ألفاظاً معدودة جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم، فقولنا كبر يطلق ويراد به قول القائل الله أكبر، وسلم يراد به قوله السلام عليكم، وحمد يقال لمن قال الحمد لله، ويقال هلل لمن قال لا إله إلا الله، وسبح لمن قال سبحان الله، ووجه هذا أن هذه أمور تتكرر من الإنسان في الكلام والحاجة تدعو إلى الإخبار عنها، فلو قال القائل فلان قال لا إله إلا الله أو قال الله أكبر طول الكلام، فمست الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة لذلك لعدم تكرر ما في الأول، وأما مناسبة هذا الوجه للكلام الذي هو فيه، فهي أن تكذيبهم الرسول وتعجبهم من قوله أو استهزاءهم كان يوجب في العادة أن يشتغل النبي صلى الله عليه وسلّم بلعنهم وسبهم والدعاء عليهم فقال : فاصبر على ما يقولون واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له ولا تكن كصاحب الحوت أو كنوح عليه السلام حيث قال :﴿رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (نوح : ٢٦) بل ادع إلى ربك فإذا ضجرت عن ذلك بسبب إصرارهم فاشتغل بذكر ربك في نفسك، وفيه مباحث :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥٦
البحث الأول : استعمل الله التسبيح تارة مع اللام في قوله تعالى :﴿يُسَبِّحُ لَه ﴾ (الجمعة : ١)، و﴿يُسَبِّحُونَ لَه ﴾ (فصلت : ٣٨) وأخرى مع الباء في قوله تعالى :﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ (الواقعة : ٧٤) و﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ (طه : ٤٢) وقوله :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى﴾ (الأعلى : ١) فما الفرق بينهما ؟
نقول : أما الباء فهي الأهم وبالتقديم أولى في هذا الموضع كقوله تعالى :﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ فنقول أما على قولنا المراد من سبح قل سبحان الله، فالباء للمصاحبة أي مقترناً بحمد الله، فيكون كأنه تعالى قال قل سبحان الله والحمد لله، وعلى قولنا المراد التنزيه لذلك أي نزهه وأقرنه بحمده أي سبحه واشكره حيث وفقك الله لتسبيحه فإن السعادة الأبدية لمن سبحه، وعلى هذا فيكون المفعول / غير مذكور لحصول العلم به من غير ذكر تقديره : سبح الله بحمد ربك، أي ملتبساً ومقترناً بحمد ربك، وعلى قولنا صل، نقول يحتمل أن يكون ذلك أمراً بقراءة الفاتحة في الصلاة يقال : صلّى فلان بسورة كذا أو صلّى بقل هو الله أحد، فكأنه يقول صلّى بحمد الله أي مقروءاً فيها : الحمد لله ربّ العالمين، وهو أبعد الوجوه، وأما التعدية من غير حرف فنقول هو الأصل لأن التسبيح يتعدى بنفسه لأن معناه تبعيد من السوء/ وأما اللام فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون كما في قول القائل نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له. وثانيهما : أن يكون لبيان الأظهر أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥٦