أما قوله :﴿كَانَ وَعْدُه مَفْعُولا﴾ فاعلم أن الضمير في قوله :﴿وَعْدُه ﴾ يحتمل أن يكون عائداً إلى المفعول وأن يكون عائداً إلى الفاعل، أما الأول : فأن يكون المعنى وعد ذلك اليوم مفعول أي الوعد المضاف إلى ذلك اليوم واجب الوقوع، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه، وأما الثاني : فأن يكون المعنى وعد الله واقع لا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وههنا وإن لم يجر ذكر الله تعالى ولكنه حسن عود الضمير إليه لكونه معلوماً، واعلم أنه تعالى بدأ في أول السورة بشرح أحوال السعداء، ومعلوم أن أحوالهم قسمان أحدهما : ما يتعلق بالدين والطاعة للمولى فقدم ذلك والثاني : ما يتعلق بالمعاملة مع الخلق وبين ذلك بقوله :﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا﴾ (المزمل : ١٠) وأما الأشقياء فقد بدأ بتهديدهم على سبيل الإجمال، وهو قوله تعالى :﴿وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ﴾ (المزمل : ١١) ثم ذكره بعده أنواع عذاب الآخرة ثم ذكر بعده عذاب الدنيا وهو الأخذ الوبيل في الدنيا، ثم وصف بعده شدة يوم القيامة، فعند هذا تم البيان بالكلية فلا جرم ختم ذلك الكلام بقوله :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٩٦
٦٩٦
أي هذه الآيات تذكرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد ﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا﴾ واتخاذ السبيل عبارة عن الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٩٦
٦٩٧
قوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه وَطَآاـاِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾ فيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد من قوله :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ﴾ أقل منهما، وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك.
المسألة الثانية : قرىء ﴿وَنِصْفَه وَثُلُثَه ﴾ بالنصب والمعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف (والثلث) وقرىء ﴿وَنِصْفَه وَثُلُثَه ﴾ بالجر أي تقوم أقل من الثلثين والنصف والثلث، لكنا بينا في تفسير قوله :﴿قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا﴾ (المزمل : ٢) أنه لا يلزم من هذا أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان تاركاً للواجب وقوله تعالى :﴿وَطَآاـاِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾ وهم أصحابك يقومون من الليل هذا المقدار المذكور.
قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ يعني أن العالم بمقادير أجزاء الليل والنهار ليس إلا الله تعالى.
قوله تعالى :﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الضمير في ﴿أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ عائد إلى مصدر مقدر أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم أيضاً تحصيل تلك المقادير على سبيل الطعن والاحتياط إلا مع المشقة التامة، قال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من قيام ما فرض عليه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٩٧
المسألة الثانية : احتج بعضهم على تكليف مالا يطاق بأنه تعالى قال :﴿لَّن تُحْصُوهُ﴾ أي لن تطيقوه، ثم إنه كان قد كلفهم به، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه كقول القائل : ما أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه.
وقوله تعالى :﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ هو عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر كقوله تعالى :﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُم فَالْـاَـانَ بَـاشِرُوهُنَّ﴾ (البقرة : ١٨٧) والمعنى أنه رفع التبعة عنكم في ترك هذا العمل كما رفع التبعة عن التائب.
قوله تعالى :﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ ﴾ وفيه قولان : الأول : أن المراد من هذه القراءة / الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، أي فصلوا ما تيسر عليكم، ثم ههنا قولان : الأول : قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء، وقال آخرون : بل نسخ وجوب ذلك التهجد واكتفى بما تيسر منه، ثم نسخ ذلك أيضاً بالصلوات الخمس القول الثاني : أن المراد من قوله :﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ ﴾ قراءة القرآن بعينها والغرض منه دراسة القرآن ليحصل الأمن من النسيان قيل : يقرأ مائة آية، وقيل : من قرأ مائة آية كتب من القانتين، وقيل : خمسين آية ومنهم من قال : بل السورة القصيرة كافية، لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعاً للحرج، وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها. وههنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال : سقط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيام الليل وصارت تطوعاً وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم.