﴿أُوالَئاِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ﴾ : أتى بخبر إن جملة، لأنها أبلغ من المفرد، وصدر بأولئك، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة. وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله :﴿أُوالَئاِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾. ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة : الأول :﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ﴾، فمنهم من حمله على ظاهره وقال : إن ذلك يكون في الدنيا، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم ناراً، فلا يحسون بها إلا بعد الموت. ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار، استدراجاً وإملاء لهم. ويكون في هذا المعنى بعض تجوز، لأنه حالة الأكل لم يكن ناراً، إنما بعد صارت في بطونهم ناراً. وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة، فهو حقيقة أيضاً. واختلفوا فقيل : جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل ناراً في الآخرة، ثم يطعمهم الله إياه في النار. وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه. وأكثر العلماء على تأويل قوله :﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ﴾، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله، والاشتراء به الثمن القليل، بالنار. وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار. وعبر بالأكل، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال. وذكر في بطونهم، أما على سبيل التوكيد، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن، فصار نظير :﴿وَلا طَئاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾. أو كناية عن ملء البطن، لأنه يقال : فلان أكل في بطنه، وفلان أكل في بعض بطنه. أو لرفع توهم المجاز، إذ يقال : أكل فلان ماله، إذ بذره، وإن لم يأكله. وجعل المأكول النار، تسمية له بما يؤول إليه، لأنه سبب النار، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم، يريدون الدية، لأنها بدل من الدم، قال الشاعر :
فلو أن حياً يقبل المال فديةلسقنا إليه المال كالسيل مفعما
ولكن لنا قوم أصيب أخوهم
رضا العار واختاروا على اللبن الدما
وقال آخر :
أكلت دماً إن لم أرعك بضربةبعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال آخر :
تأكل كل ليلة أكافا
أي ثمن أكاف، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك. وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير، ومن ذلك :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا ﴾، ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجر في بطنه نار جهنم، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرهم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول، قاله الراغب. وقال ابن عطية نحوه، قال : وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ : هذا الخبر الثاني عن أولئك، وظاهره نفي الكلام مطلقاً، أعني مباشرتهم بالكلام، فيكون ما جاء في القرآن، أو في السنة، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام، متأولاً بأنه يأمر من يقول لهم ذلك، نحو قوله تعالى :﴿قَالَ اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾، ويكون في نفي كلامه تعالى
٤٩٢
إياهم، دلالة على الغضب عليهم، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه ؟ لأن في التكلم، ولو كان بشر، تأنيساً مّا والتفاتاً إلى المكلم. وقيل : معنى ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم. وليس المراد نفي الكلام، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره : أنه يكلم الكافرين، قاله الحسن. وقيل : المعنى ليس على العموم، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم، كقوله :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، والسؤال لا يكون إلا بالتكليم، وقال :﴿قَالَ اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾. فالمعنى : لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية، وإنما يكلمهم كلاماً يشق عليهم. وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. وقيل : ولا يكلمهم الله، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه. وقيل : المعنى لا يحملهم على الكلام، لأن من كلمته، كنت قد استدعيت كلامه، كأنه قال : لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله :﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾، فنفى الكلام، وهو يراد ما يلزم عنه، وهو استدعاء الكلام.
﴿وَلا يُزَكِّيهِمْ﴾ : هذا هو الخبر الثالث، والمعنى : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء. وقيل : المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة. وقيل : المعنى لا يثني عليهم من قولهم : زكى فلاناً، إذ أثنى عليه، قاله الزجاج. وقيل : لا يطهرهم من دنس كفرهم، وهو معنى قول بعضهم : لا يطهرهم من موجبات العذاب، قاله ابن جرير. وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء.


الصفحة التالية
Icon