وقيل : البأساء : القتال، والضراء : الحصار، ذكره الماوردي. وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولاً الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض.
قال الراغب : استوعب أنواع الصبر لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله، وهو : البأساء، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم، وهو : الضراء في مدافعة مؤذية، وهو : البأساء. انتهى كلامه.
وعدى الصابرين إلى البأساء والضراء بفي لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلاَّ إذا صار له الفقر والمرض كالظرف، وأما الفقر وقتاً ما، أو المرض وقتاً ما، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك لأن ذلك قلَّ أن يخلو منه أحد. وأما القتال فعدّى الصابرين إلى ظرف زمانه لأنها حالة لا تكاد تدوم، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها، كالجرم المحسوس، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء عليهم السلام، قال : لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقد تقدم الكلام على ذلك.
﴿أُوالَئاِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ا وَأُوالَئاِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ أشار : بأولئك، إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية، من الاتصاف بالإيمان وما بعده، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى، أي : يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة، كقوله :﴿أُوالَئاِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب والمعنى : أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقاً لا يتطرق إليه الكذب، ومنه :"لا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صادقاً، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً".
ويحتمل أن يراد بالصدق : الصدق في الأحوال، وهو مقابل الرياء أي : أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة، بل قصدوا وجه الله تعالى، وكانوا عند الظن بهم، كما تقول صدقني الرمح، أي : وجدته عند اختباره كما اختار وكما اظن به، والتقوى هنا اتقاء عذاب الله بتجنب معاصيه، وامتثال طاعته.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
وتنوع هنا الخبر عن أولئك، فأخبر عن أولئك الأول : بالذين صدقوا، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر، واخبر عن أولئك الثاني : بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة.
﴿الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ : روى البخاري عن ابن عباس قال : كان في اسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية. فقال الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة والشعبي : نزلت في قوم من العرب أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلاَّ سيداً، ولا بالمرأة إلاَّ رجلاً.
وقال السدي، وأبو مالك : نزلت في فريقين أحدهما مسلم، والآخر كافر معاهد، كان بينهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قتال، فقُتِل من كلا الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد، فنزلت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم دية الرجل قصاصاً بدية الرجل، ودية المرأة قصاصاً بدية المرأة، ودية العبد قصاصاً بدية العبد. ثم أصلح بينهما.
وقيل : نزلت في حيين من العرب اقتلوا قبل الإسلام، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض. قال ابن جبير : هما الأوس والخزرج. وقال مقاتل بن حيان : هما قريظة والنضير، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الاخرى في الكثرة والشرف، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت، وأمرهم بالمساواة فرضوا، وفي ذلك قال قائلهم :
هم قتلوا فيكم مظنة واحدثمانية ثم استمروا فأربعوا
وروي أن بعض غني قتل شأس بن زهير، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له، وقال له بعض من يذب عنهم : سل في قتل شاس، فقال : إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهنّ، فقالوا : ما هنّ ؟ فقال : تحيون شاساً، أو تملؤون داري من نجوم السماء، أو تدفعون لي غنياً بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.