والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله :﴿فِي الْقَتْلَى ﴾ وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر. وهو : أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس وقال ابن المسيب، والنخعي، وقتادة، والحكم وابن أبي ليلى : القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات، وروي ذلك عن ابن مسعود، وقال الليث : يقتص للحر من العبد، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات. وقال الشافعي : من جرى عليه، القصاص في النفس جرى عليه في الجراح، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس.
﴿وَالانثَى بِالانثَى ﴾. واتفقوا على ترك ظاهرها، وأجمعوا، كما تقدم ذكره، على قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، إلاَّ خلافاً شاذاً عن الحسن البصري، وعطاء، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
وروي أن عمر قتل نفراً من صنعاء بامرأة، والمرأة بالرجل وبالعبد، والعبد بالحر، وقد وهم الزمخشري في نسبته إلى مذهب مالك والشافعي
١١
أن الذكر لا يقتل بالأنثى، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها.
وقال عثمان البتي : إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء.
واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء، فذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وابن شبرمة، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلاَّ في الأنفس، وذهب مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، والليث، والشافعي، وابن شبرمة في رواية إلى أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها، إلاَّ أن الليث قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه.
وإعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر، وهي ذوات ابتدىء بها، والجار والمجرور أخبار عنها، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية، فليس ذلك على حدّ قولهم : زيد بالبصرة، وإنما هي للسبب، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه، إذا لكون الخاص لا يجوز حذفه إلاَّ في مثل هذا، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى، فالتقدير : الحر مقتول بالحر، أي : بقتله الحر، فالباء للسبب على هذا التقدير، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً، ولو قلت : الحر كائن بالحر، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيجوز، والتقدير : قتل الحر كائن بالحر، أي : بقتله الحر، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله، التقدير : يقتل الحر بقتله الحر، إذ في قوله :﴿الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ دلالة على هذا الفعل.
﴿فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ﴾ قال علماء التفسير : معنى ذلك أن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود، وجعل الله لهذه الأمة لمن شاء القتل، ولمن شاء أخذ الدية، ولمن شاء العفو.
وقال قتادة : لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة، وروي أيضاً عن قتادة : أن الحُكم عند أهل التوراة كان القصاص أو العفو. ولا أرش بينهم، وعند أهل الإنجيل الدية والعفو لا أرش بينهم، فخير الله هذه الأمة بين الخصال الثلاث.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦


الصفحة التالية
Icon