وقيل : هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة، فمعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، وتكون : عفا بمعنى : فضل، من قولهم : عفا الشيء إذا كثر، أي : أفضلت الحالة له، أو الحساب، أو القدر، وقيل : هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي : من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعفي هنا بمعنى : أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع، ثم بينت الحكم إذا تداخلت، والقول الأول أظهر كما قلناه، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفي بمعنى : ترك، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، قال : والأول أجود بمعنى أن يكون عفي لا يتعدى إلى مفعول به، وإن ارتفاع شيء، هو لكونه مصدراً أقيم مقام الفاعل، وتقدم قول الزمخشري : إن عفي بمعنى : ترك لم يثبت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
﴿فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ﴾. ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : فالحكم، أو الواجب كذا قدره ابن عطية، وقدره الزمخشري : فالأمر اتباع، وجوز أيضاً رفعه بإضمار فعل تقديره : فليكن اتباع، وجوّزوا أيضاً أن يكون مبتدأً محذوف الخبر وتقديره، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية، وقدروه أيضاً متأخراً تقديره، فاتباع بالمعروف عليه.
قال ابن عطية بعد تقديره : فالحكم أو الواجب اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله ﴿فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ﴾ وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله :﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ انتهى.
١٣
ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلاَّ ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله :﴿قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ﴾ فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا. وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري : فليكن، فهو ضعيف إذ : كان، لا تضمر غالباً إلاَّ بعد إن الشرطية، أو : حيث يدل على إضمارها الدليل، و﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق بقوله : فاتباع، وارتفاع :﴿وَأَدَآءٌ﴾ لكونه معطوفاً على اتباع، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في : فاتباع، ويكون بإحسان متعلقاً بقوله : وأداء، وجوزوا أن يكون : وأداء، مبتدأ، وبإحسان، هو الخبر، وفيه بعد والفاء في قوله : فاتباع، جواب الشرط إن كانت مَن شرطاً، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت مَن موصولة، فإن كانت مَن : كناية عن القاتل وأخوه : كناية عن الولي، وهو الظاهر، فتكون الجملة توصية للمعفو عنه والعافي بحسن القضاء من المؤدي، وحسن التقاضي من الطالب، وإن كان الأخ كناية عن المقتول كانت الهاء في قوله : وآداء إليه، عائدة على ما يفهم من يصاحب بوجه مّا، لأن في قوله : عفي دلالة على العافي فيكون نظير قوله :﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ إذ في العشي دلالة على مغيب الشمس، وقول الشاعر :
لك الرجل الحادي وقد منع الضحىوطير المنايا فوقهن أواقع
أي : فوق الإبل، لأن في قوله : الحادي، دلالة عليهن، وإن كانت مَن كناية عن القاتل فيكون أيضاً توصية له وللولي بحسن القضاء والتقاضي، أي : فاتباع مِنَ الولي بالمعروف، وأداء من القاتل إليه بإحسان، والاتباع بالمعروف أن لا يعنف عليه ولا يطالبه إلاَّ مطالبة جميلة، ولا يستعجله إلى ثلا ث سنين يجعل انتهاء الإستيفاء والأداء بالإحسان، أن لا يمطله ولا يبخسه شيئاً. وهذا مروي عن ابن عباس في تفسير الإتباع والأداء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
وقيل : اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه، وقد روي في الحديث :"من زاد بعيراً في أبل الدية وفرائضها فمن أمر الجاهلية".
وقيل الاتباع والأداء معاً من القاتل، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه، والأداء بالإحسان أن لا يؤخره. وقيل : المعروف حفظ الجانب ولين القول، والإحسان تطييب القول، وقيل : المعروف ما أوجبه تعالى، وقيل : المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى.
وظاهر قوله :﴿فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ﴾ الآية. أنه يمتنع إجابة القاتل إلى القود منه إذا اختار ذلك واختار المستحق الدية ويلزم القاتل الدية إذا اختارها الولي، وإليه ذهب سعيد، وعطاء، والحسن، والليث، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ورواه أشهب عن مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، ومالك في إحدى الروايتين عنه، والثوري، وابن شبرمة : ليس للولي إلاَّ القصاص، ولا يأخذ إلاَّ برضى القاتل، فعلى قول هؤلاء يقدر بمحذوف، أي : فمن عفي له من أخيه شيء ورضي المعفو ودفع الدية فاتباع بالمعروف، وقد تقدّمت لنا الإشارة إلى هذا الخلاف عند تفسيرنا :﴿فَمَنْ عُفِىَ﴾ واختلاف الناس فيه.


الصفحة التالية
Icon