وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه. أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سبباً لانتفاء نفسه، وهو محال. الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة. الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفي للقتل. الرابع : أن القتل ظلماً هو قتل، ولا يكون نافياً للقتل. وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل، والآية المكرمة بخلاف ذلك.
أما في الوجه الأول : ففيه
١٥
أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة، لا لمطلق الحياة، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص، اتضح كون شرع القصاص سبباً للحياة.
وأما في الوجه الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف، لأن في كلام العرب كما قلناه تكرار اللفظ، والحذف إذ أنفي، أو أكف، أو أوقى، هو أفعل تفضيل، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفي للقتل من ترك القتل.
وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة.
وأما في الوجة الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق، فترتب على مشروعيته وجود الحياة.
ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده، وهو نوع من البيان يسمى الطباق، وهو شبه قوله تعالى :﴿وَأَنَّه هُوَ أَمَاتَ﴾ وهذه الجملة مبتدأ وخبر، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم، وهو في موضع الخبر، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة، وهي مشروعية القصاص، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب القائلون لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وهم الذين خصهم الله بالخطاب، ﴿يَعْلَمُونَا إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ ﴿لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿لايَـاتٍ لاوْلِى الالْبَـابِ﴾ ﴿لايَـاتٍ لاوْلِى﴾ ﴿ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ﴾ وذوو الالباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف، فلهذا خص به ذوي الألباب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي : القصاص، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذراً من القصاص أو الانهماك في القتل، أو تتقون الله باجتناب معاصيه، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة أقوال خمسة، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص، والدية، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية، وبيان أنه مما كتبه الله على عباده حتى يتنبه كل أحد فيوصي مفاجأة الموت، فيموت على غير وصية، ولا ضرورة تدعو إلى أن : كتب، أصله : العطف على. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ وأن الواو حذفت للطول، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت، ومعنى حضور الموت أي : حضور مقدماته وأسبابه من العلل والأمراض والأعراض المخوفة، والعرب تطلق على أسباب الموت موتاً على سبيل التجوز. وقال تعالى :﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ وقال عنترة.
وان الموت طوع يدي إذا ماوصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير.
انا الموت الذي حدثت عنهفليس لهارب مني نجاءُ
وقال غيره.
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسواقولا يبرئكم : إني أنا الموت
والخطاب في : عليكم، للمؤمنين مقيداً بالإمكان على تقدير التجوز في حضور الموت، ولو جرى نظم الكلام على خطاب المؤمنين لكان : إذا حضركم الموت، لكنه روعيت دلالة العموم في : عليكم، من حيث المعنى، إذا لمعنى : كتب على كل واحد منكم، ثم أظهر ذلك المضمر، إذ كان يكون إذا حضره
١٦
الموت، فقيل : إذا حضر أحدكم، ونظير مراعاة المعنى في العموم قول الشاعر :
ولست بسائل جارات بيتيأغياب رجالك أم شهود
فأفرد الضمير في رجالك لأنه راعى معنى العموم، إذ المعنى ولست بسائل كل جارة من جارات بيتي، فجاء قوله : أغياب رجالك، على مراعاة هذا المعنى. وهذا شيء غريب مستطرف من علم العربية.
وقيل : المراد بالموت هنا حقيقته لا مقدماته، فيكون الخطاب متوجهاً إلى الأوصياء والورثة، ويكون على حذف مضاف، أي : كتب عليكم، إذا مات أحدكم، إنفاذ الوصية والعمل بها، فلا تكون الآية تدل على وجوب الوصية، بل يستدل على وجوبها بدليل آخر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦