أن البر ليس هو تولية الوجوه قبل، المشرق والمغرب، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع، اعتقاداً وفعلاً وقولاً. فمن الاعتقاد : الإيمان بالله، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة، وأنبيائه المتلقين. تلك الكتب من ملائكته. ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب، من : إيتاء المال، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيفاء بالعهد، والصبر في الشدائد. ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي، ولما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل وما حرم، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالاً من غير حله، وعده بالنار، وأشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال، ثم ذكر من اتصف بالبر التام وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء، ويستدعي صونها، وكان تقديم ذكر المأكول لعموم البلوى بالأكل، فشرع القصاص، ولم يخرج من وقع منه القتل واقتص منه عن الإيمان ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان وفصل شيئاً المكافأة فقال﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالانثَى بِالانثَى ﴾، إلاَّ ثم أخبر بعد ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف، وليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل والولي، ويزيل الإحن، لأن مشروعية العفو تستدعي التحاب وصفاء البواطن.
ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل، وكان عاقلاً، منعه ذلك من الإقدام على القتل، إذ في ذلك إتلاف نفس المقتول وإتلاف نفس قاتله، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزاً من أن يقتل فيقتل، فيحيي بذلك من أراد قتله وهو، فكان ذلك سبباً لحياتيهما.
ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت، وذكر أن الوصية للوالدين والأقربين، وتوعد من بدل الوصية بعد ما علمها، ثم ذكر أنه لا إثم على من أصلح بين الموصي إليهم إذا كان جنفاً أو إثماً من الموصي، وأن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله وهو : الإيمان بالله، وختم حاله وهو : الوصية عند مفارقه هذا الوجود، وما تخلل بينهما مما يعرض من مبارِّ الطاعات، وهَنَاتِ المعاصي، من غير استيعاب لأفراد ذلك، بل تنبيهاً على أفضل الأعمال بعد الإيمان، وهو : إقامة الصلاة وما بعدها وعلى أكبر الكبائر بعد الشرك، وهو : قتل النفس، فتعالى مَنْ كلامه فصل، وحكمه عدل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦