وكل : منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت : ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى مدّة صحبتك لي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي، وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت : أصحبك ما ذر لله شارق، فإنما تريد العموم. فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما، فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب. والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما، إنما ذلك فيها من العموم، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت كل توكيداً للعموم المستفاد من ما الظرفية، فإذا قلت : كلما جئتني أكرمتك، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد من جيئاتك إليّ. وما أضاء : في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على حذف مضاف أيضاً، معناه : كلّ وقت إضاءة، فقام المصدر مقام الظرف، كما قالوا : جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله : مشوا فيه، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق الطريق. فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائداً على المفعول المحذوف، ويحتمل أن يعود على البرق، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازماً، أي : كلما لمع البرق مشوا في نوره، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة : كلما ضاء ثلاثياً، وقد تقدّم أنها لغة. وفي مصحف أُبيّ : مرّوا فيه، وفي مصحف ابن مسعود : مضوا فيه. وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل : فأضاء لهم في حالتي وميض البرق وخفائه، قيل : كلما أضاء لهم إلى آخره.
وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك : وإذا أظلم مبنياً للمفعول، وأصل أظلم أن لا يتعَدّى، يقال : أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله. قال الزمخشري : أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٨
هما أظلما حاليّ ثمت أجلياظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا
٩٠
ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس يقول أبي تمام : هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدّى بحرف جر. ألا ترى كيف عدى أظلم إلى المجرور بعلى ؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور، فيكون في موضع رفع، وكان الأصل : وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار والمجرور مقامه، نحو : غضب زيد علي عمرو، ثم تحذف زيداً وتبني الفعل للمفعول فتقول : غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك : وإذا أظلم الله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل. وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب :
من كان مرعى عزمه وهمومهروض الأماني لم يزل مهزولاً
وكيف يستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره ؟ ومعنى قاموا : ثبتوا ووقفوا، وصدرت الجملة الأولى بكلما، والثانية بإذا. قال الزمخشري : لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس، انتهى كلامه. ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى، لأنه متى فهم التكرار من :﴿كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ﴾ لزم منه أيضاً التكرار في أنه إذا أظلم عليهم قاموا، لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، فمتى وجد هذا فقد هذا، فيلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذاً تدل على التكرار ككلما، وأنشد :
إذا وجدت أوار الحب في كبديأقبلت نحو سقاء القوم أبترد
قال : فهذا معناه معنى كلما.