وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع، وهو بالنسبة إلى المخاطبين، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ ﴿هُوَا عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾، وهي متعلقة بقوله :﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، فكأنه قال : إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة. قال ابن عطية : ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً. ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم، قال : لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة، والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين. والذي يظهر ترجيحه أن يكون :﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ متعلقاً بقوله :﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾. فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة. وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها. وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها
٩٥
لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره، بخلاف قوله : اعبدوا، فإنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين. وإذا تعلق بقوله : اعبدوا، كان ذلك موافقاً، إذ قوله : اعبدوا خطاب، ولعلكم تتقون خطاب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال : فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبهلم، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم، قلت : لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً، انتهى كلامه. وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله : اعبدوا، فيسقط هذا السؤال. وقال المهدوي : لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من ذرأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي. والمعنى عند سيبويه : افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا، انتهى كلامه. ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقاً بالخلق قال : فإن قلت : فهلا قيل : تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم ؟ قلت : ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده، فإذا قال :﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ﴾ للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاماً لها وأثبت لها في النفوس، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، وقد تقدم ذلك. وأما قوله : ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى : اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل : اضرب زيداً لعلك تضربه، واقصد خالداً لعلك تقصده. ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى، والقرآن متنزه عن ذلك. والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم، لأن التقوى مصدر اتقى، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة. فعلى هذا، العبادة ليست نفس التقوى، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز، فكأنه قال : اعبدوه فتحترزوا عن عقابه، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز، ومفعول يتقون محذوف. قال ابن عباس : الشرك، وقال الضحاك : النار، أو معناه تطيعون، قاله مجاهد : ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى. قال بعض المفسرين : فيه بعد من حيث إنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها، والواقع خلاف ذلك، انتهى كلامه. ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزاً في جبلتهم، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك، بل المعاصي هي الواقعة كثيراً، وهذا ليس كما ذكر، وقد يخلق الإنسان راجياً لشيء فلا يقع ما يرجوه، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله، ولقد صدق الشاعر في قوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
علمي بقبح المعاصي حين أركبهايقضي بأني محمول على القدر


الصفحة التالية
Icon