﴿إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ إستثناء منقطع يتعلق بالأخير، وهو : أن تجمعوا بين الأختين. والمعنى : لكن ما سلف من ذلك، ووقع. وأزالت شريعة الإسلام حكمه، فإن الله يغفره والإسلام يجبه ويدل على عدم المؤاخذة به قوله.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ وقد يكون معنى قوله : إلا ما قد سلف، فلا ينفسخ به العقد على أختين، بل يخير بين من شاء منهما، فيطلق الواحدة، ويمسك الأخرى كما جاء في حديث فيروز الديلمي : أنه أسلم وتحته أختان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"طلق إحداهما وأمسك الأخرى" وظاهر حديث فيروز : التخيير من غير نظر إلى وقت العقد، وهو
٢١٣
مذهب مالك، ومحمد، والليث، وذهب : أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثوري إلى أنه يختار من سبق نكاحها، فإن كانا في عقد واحد فرق بينه وبينهما. وقال عطاء، والسدي : هذا الاستثناء يدل على أن ما تقدّم قبل ورود النهي كان مباحاً، هذا يعقوب عليه السلام جمع بين أم يوسف وأختها. ويضعف هذا لبعد صحة إسناد قصة يعقوب في ذلك، وكون هذا التحريم متعلقاً بشرعنا نحن، لا يظهر منه ذكر عفو عنه فيما فعل غيرنا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ﴾ الإحصان : التزوج، أو الحرية، أو الإسلام، أو العفة. وعلى هذه المعاني تصرفت هذه اللفظة في القرآن، ويفسر كل مكان بما يناسبه منها. وروى أبو سعيد أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدوًّا وأصابوا سبباً لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت. فالمحصنات هنا المزوجات. والمستثنى هو السبايا، فإذا وقعت في سهمه من لها زوج فهي حلال له، وإلى هذا ذهب : أبو سعيد، وابن عباس، وأبو قلابة، ومكحول، والزهري، وابن زيد، وهذا كما قال الفرزدق :
وذات حليل أنكحتها رماحناحلال لمن يبنى بها لم تطلق
وقيل : المحصنات المزوجات، والمستثنى هن الإماء، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهن بشراء، أو هبة، أو صدقة، أو إرث. فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج، وبيعها، وهبتها، والصدقة بها وارثها طلاق لها. وإلى هذا ذهب عبد الله، وأبي جابر، وابن عباس أيضاً، وسعيد، والحسن. وذهب عمرو بن عباس أيضاً، وأبو العالية، وعبيدة، وطاووس، وابن جبير، وعطاء : إلى أن المحصنات هن العفائف، وأريد به كل النساء حرام، والشرائع كلها تقتضي ذلك. والمستثنى معناه : إلا ما ملكت أيمانكم بنكاح أو بملك، فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين. وبهذا التأويل يكون المعنى تحريم الزنا. وروي عن عمر في المحصنات أنهن الحرائر ؟ فعلى هذا يكون قوله : إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح إن كان الاستثناء متصلاً، وإن كان أريد به الإماء كان منقطعاً. قيل : والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن تعلق بالقدر المشترك بين معانية الأربعة، وإن اختلفت جهات الإحصان، ويحمل قوله : إلا ما ملكت أيمانكم على ظاهر استعماله في القرآن وفي السنة. وعرف العلماء من أن المراد به الإماء، ويعود الاستثناء إلى ما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان. وكل ما صح ملكها ملك يمين حلت لمالكها من مسبية أو مملوكة مزوجة.
ولم يختلف القراء السبعة في فتح الصاد من قوله : والمحصنات من النساء، واختلفوا في سوى هذا فقرأ الكسائي : بكسر الصاد، سواء كان معرفاً بالألف واللام، أم نكرة. وقرأ باقيهم وعلقمة : بالفتح، كهذا المتفق عليه. وقرأ يزيد بن قطيب : والمحصنات بضم الصاد اتباعاً لضمة الميم، كما قالوا : منتن، ولم يعتدّوا بالحاجز لأنه ساكن، فهو حاجز غير حصين. وقال مكي : فائدة قوله : من النساء، أنّ المحصنات تقع على الأنفس فقوله :﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ﴾ لو أريد به النساء خاصة، لما حدّ مَن قذف رجلاً بنص القرآن، وأجمعوا على أن حده بهذا النص.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ انتصب بإضمار فعل وهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت عليكم. وكأنه قيل : كتب الله عليكم تحريم ذلك كتاباً. ومن جعل ذلك متعلقاً بقوله :﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ﴾ كما ذهب إليه عبيدة السلماني، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلاً بهذه الآية، إذ تقدير ذلك عنده : عليكم كتاب الله أي : الزموا كتاب الله. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدراً مؤكداً كما ذكرناه. ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع اليماني : كتب الله عليكم، جعله فعلاً ماضياً رافعاً ما بعده، أي : كتب الله عليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميقع
٢١٤
أيضاً أنه قرأ : كتب الله عليكم جمعاً ورفعاً أي : هذه كتب الله عليكم أي : فرائضه ولازماته.