والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى :﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآاِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولا يمكن أن يراد الرجم، لأنّ الرجم لا يتنصف. والمراد بفاحشة هنا : الزنا، بدليل إلزام الحد. والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر. وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين، واختاره الطبري. وذهب ابن عباس والجمهور : إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط، ولا تغرب. فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب. والظاهر وجوب الحد من قوله : فعليهن، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت، وهو مذهب الجمهور. وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها.
قال ابن شهاب : مضت السنة أن يحدّ الأمة والعبد في الزنا أهلوهم، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان، فليس لأحد أن يفتات عليه. وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم. وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم : ابن عمر، وأنس. وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله :﴿إِذَآ﴾ وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال مالك والليث : يحد السيد إلا في القطع، فلا يقطع إلا الإمام. وقال أبو حنيفة : لا يقيم الحدود على العبيد
٢٢٣
والإماء إلا السلطان دون المواليْ وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة، وهذا مجمع عليه. والمحصنات هنا الإبكار الحرائر، لأنّ الثيب عليها الرجم. وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحدّ. وذهب أهل الظاهر منهم داود : إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
وقرأ حمزة والكسائي : أحصن مبنياً للفاعل، وباقي السبعة : مبنياً للمفعول إلا عاصماً، فاختلف عنه. ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدًّا في أنه أريد به التزوج، ويقوى حمله مبنياً للفاعل على هذا المعنى أي : أحصن أنفسهن بالتزويج. وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله : فإن أتين بفاحشة فعليهن، فالفاء في : فإن أتين هي فاء الجواب، لا فاء العطف، ولذلك ترتب الثاني، وجوابه على وجود الأول، لأنّ الجواب مترتب على الشرط في الوجود، وهو نظير : إن دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت طالق، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيداً ثانياً. ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا، وتفصيل ذكر في النحو. ومن العذاب في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ما.
﴿مَا عَلَى الْمُحْصَنَـاتِ مِنَ الْعَذَابِا ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ﴾ ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة. والعنت : هو الزنا. قاله : ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والضحاك، وعطية العوفي، وعبد الرحمن بن زيد. والعنت : أصله المشقة، وسمي الزنا عنتاً باسم ما يعقبه من المشقة في الدنيا والآخرة. قال المبرد : أصل العنت أن يحمله العشق والشبق على الزنا، فيلقى العذاب في الآخرة، والحدّ في الدنيا. وقال أبو عبيدة والزجاج : العنت الهلاك. وقالت طائفة : الحد. وقالت طائفة : الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وظاهر هذا أنه إذا لم يخش العنت لا يجوز له نكاح الأمة. والذي دلّ عليه ظاهر القرآن : أنه لا يجوز نكاح الحرّ الأمة إلا بثلاثة شروط :﴿اثْنَانِ ذَوَا﴾ وهما : عدم طول الحرّة المؤمنة، وخوف العنت. وواحد في الأمة وهو الإيمان.
﴿مِنكُم وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ ظاهره الإخبار عن صبر خاص، وهو غير نكاح الإماء، وقاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير والسدي : وجهة الخيرية كونه لا يرق ولده، وأن لا يبتذل هو، وينتقص في العادة بنكاح الأمة. وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر" وجاء في الحديث :"انكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم". وقيل : المراد وإن تصبروا عن الزنا بنكاح لإماء خير لكم، وعلى هذا فالخيرية ظاهرة. ويكون على هذا القول في الآية إيناس لنكاح الإماء، وتقريب منه، إذ كانت العرب تنفر عنه. وإذا جعل : وإن تصبروا عاماً، اندرج فيه الصبر المقيد وهو : عن نكاح الإماء، وعن الزنا. إذ الصبر خير، من عدمه، لأنه يدل على شجاعة النفس وقوة عزمها، وعظم إبائها، وشدة حفاظها. وهذا كله يستحسنه العقل، ويندب إليه الشرع، وربما أوجبه في بعض المواضع. وجعل الله تعالى أجر الصابر موفاة بغير حساب، وقد قال بعض أهل العلم : إنّ سائر العبادات لا بد لها من الصبر. قال تعالى :﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ﴾.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢