﴿ضَعِيفًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ﴾ تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله :﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ وَتُدْلُوا ﴾ ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح، بيّن كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح، وإلى ملك اليمين، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل، والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة، فيدخل فيه : السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا، وأثمان البياعات الفاسدة، فيدخل فيه بيع العربان وهو : أن يأخذ منك السلعة ويكرى الدابة ويعطى درهماً مثلاً عرباناً، فإن اشترى، أو ركب، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء، وإلا فهو للبائع. فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء، لأنه من باب أكل المال بالباطل. وأجاز قوم منهم : ابن سيرين، ومجاهد، ونافع بن عبيد، وزيد بن أسلم : بيع العربان على ما وصفناه، والحجج في كتب الفقه.
وقد اختلف السلف في تفسير قوله : بالباطل. فقال ابن عباس والحسن : هو أن يأكله بغير عوض. وعلى هذا التفسير قال ابن عباس : هي منسوخة، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكاً أو وارثاً، أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض. وقال السدي : هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وغير ذلك مما لم يبح الله
٢٣٠
تعالى أكل المال به. وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود والجمهور. وقال بعضهم : الآية مجملة، لأن معنى قوله : بالباطل، بطريق غير مشروع. ولمّا لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل، صارت الآية مجملة. وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه : أموال بعضكم. كما قال تعالى :﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ﴾ وقوله :﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ وقيل : يشمل قوله : أموالكم، مال الغير ومال نفسه. فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع، ونهى أن يأكل مال نفسه بالباطل، وهو : إنفاقه في معاصي الله تعالى. وعبر هنا عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
﴿إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ هذا استثناء منقطع لوجهين : أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال : ابن عباس، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره. والثاني : أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال. ومن ذهب إلى أنه استثناء متصل فغير مصيب لما ذكرناه. وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو : التجارة، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
وفي قوله : عن تراض دلالة على أنّ ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي، وهو من اثنين : الباذل للثمن، والبائع للعين. ولم يذكر في الآية غير التراضي، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذا تراضيا على ذلك، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم. وقالت فرقة : إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث، ردّ البيع. وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما، وإن لم يتفرقا. وبه قال : أبو حنيفة، ومالك، وروى نحوه عن عمر. وقال الثوري، والليث، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي : إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرّقا، واستثنوا صوراً لا يشترط فيها التفرق، واختلفوا في التفرق. فقيل : بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه. وقال الليث : بقيام كل منهما من المجلس. وكل من أوجب الخيار يقول : إذا خيره في المجلس فاختار، فقد وجب البيع. وروى خيار المجلس عن عمر أيضاً. وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب، وموضوع ذلك كتب الفقه.