والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم من قوله :"ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله" وفي صحيح مسلم :"الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود : هي ثلاث، القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وروي عنه أيضاً أنها أربع : فزاد الإشراك بالله. وقال علي : هي سبع : الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع كقول عليّ في كل واحدة منها آية في كتاب الله، وجعل الآية في التعرب :﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَـارِهِم مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ﴾ الآية وفي البخاري :﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ﴾ فذكر هذه إلا التعرب، فجاء بدله السحر. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري. وقال ابن عمر : فذكر هذه إلا السحر، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام. والذي يستسخر بالوالدين من العقوق. وقال ابن مسعود أيضاً والنخعي : هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها، وهي :﴿يَسِيرًا * إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ﴾ وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال ابن عباس أيضاً : الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار، أو عذاب، أو لعنة، أو ما أشبه ذلك. وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي، قال : قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصحّ لي أن كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر، ووجدناه عليه السلام قد أحل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث ـ يعني الذي في البخاري ـ فمنها، قول الزور، وعقوق الوالدين، والكذب عليه صلى الله عليه وسلّم، وتعريض المرء أبويه للسبّ بأن يسبّ آباء الناس، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلق الشعر فيها، وخرق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها، وعلى لسان الإزار على سبيل التجوه، وعلى المنان بما يفعل من الخير، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى المانع فضل مائه من الشارب، وعلى الغلول، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم، وعلى المقطتع بيمينه حق امرىء مسلم، وعلى الإمام الغاش لرعيته، ومن ادعى إلى غير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، ومن ادعى ما ليس له، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض عليّ رضي الله عنه، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه. عني قوله هي : إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وروي عن ابن عباس أنه قال : هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، هل التكفير قطعي ؟ أو غالب ظن ؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعيّ كما دلت عليه الآية والأحاديث، والأصوليون قالوا : هو على غلبة الظن، وقالوا : لو كان ذلك قطعياً لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه، ووصف مدخلاً بقوله : كريماً ومعنى كرمه : فضيلته، ونفى العيوب عنه كما تقول : ثوب كريم، وفلان كريم المحتد. ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر.
وقرأ ابن عباس وابن جبير : أن تجتنبوا كبير على الافراد، وقد ذكرنا من
٢٣٤
احتج به على أنه أريد الكفر. وأمّا من لم يقل ذلك فهو عنده جنس.
وقرأ المفضل عن عاصم : يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة.
وقرأ ابن عباس : من سيئاتكم بزيادة من.


الصفحة التالية
Icon