والخطاب في : وإن خفتم، وفي فابعثوا، للحكام، ومن يتولى الفصل بين الناس. وقيل : للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ، ولهم نصب الحكمين. وقيل : خطاب للمؤمنين. وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج، إذ لو كان خطاباً للأزواج لقال : وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا، أو لقال : فإن خفتم شقاق بينكم، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي. والضمير في بينهما عائد على الزوجين، ولم يجرد ذكرهما، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
والحكم : هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح. ولم تتعرّض الآية لماذا يحكمان فيه، وإنما كان من الأهل، لأنه أعرف بباطن الحال، وتسكن إليه النفس، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة. قال جماعة من العلماء : لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين، عدلين، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها. فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغباً فيمن يفصل بينهما. وقال بعض العلماء : إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم. وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين، من أهل العفاف والستر، يغلب على الظن نصحهما. واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق، وبه قال : مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور. وهو مروي عن : علي، وعثمان، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وأبي سلمة، وطاووس. قال مالك : إذا رأيا التفريق فرقا، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه، وكلاه أم لا، والفراق أم لا، والفراق في ذلك طلاق بائن، وقالت طائفة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرّحا بتقديمهما عليه، فالحكمان وكيلان : أحدهما للزوج، والآخر للزوجة، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين، وهو مذهب أبي حنيفة، وعن الشافعي القولان. وقال الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنّها ليست إليهما. وأما ما يقول الحكمان، فقال جماعة : يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك، فإن قال : لا حاجة لي فيها، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا، علم أن النشوز من قبله. وإن قال : أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا، علم أنه ليس يناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه، وزجراه، ونهياه.
﴿إِن يُرِيدَآ إِصْلَـاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ﴾ الضمير في يريدا عائد على الحكمين
٢٤٣
قاله : ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. وفي بينهما عائد على الزوجين، أي : قصدا إصلاح ذات البين، وصحت نيتهما، ونصحا لوجه الله، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما، وألقى في نفوسهما المودة. وقيل : الضميران معاً عائدان على الحكمين أي : إن قصدا إصلاح ذات البين، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض. وقيل : الضميران عائدان على الزوجين أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً بينهما، وزوال شقاق، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما. وقيل : يكون في يريدا عائداً على الزوجين، وفي بينهما عائداً على الحكمين : أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة، وأصلحا، ونصحا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور.
وروي عن مالك : أنه يجري إرسال واحد، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك : حكمهما منقوض. وقال ابن العربي : الصحيح نفوذه. وأجمع أهل الحل والعقد : على أن الحكمين يجوز تحكيمهما. وذهبت الخوارج : إلى أن التحكيم ليس بجائز، ولو فرّق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين. فهل يصح من غير أمر سلطان ؟ ذهب الحسن وابن سيرين : إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان. وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين : إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم : مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ يعلم ما يقصد الحكمان، وكيف يوفقا بين المختلفين، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين.