والبخل أنواع : بخل بالمال، وبخل بالعلم وبخل بالطعام، وبخل بالسلام، وبخل بالكلام، وبخل على الأقارب دون الأجانب، وبخل بالجاه، وكلها نقائض ورذائل مذمومة عقلاً وشرعاً وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل منها :﴿مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ﴾ وظاهر قوله بالبخل أنه متعلق بقوله : ويأمرون، كما تقول : أمرت زيداً بالصبر، فالبخل مأمور به. وقيل : متعلق الأمر محذوف، والباء في بالبخل حالية، والمعنى : ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله :
أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهماتيه الملوك وأفعال المماليك
وقرأ الجمهور : بالبخل بضم الباء وسكون الخاء. وعيسى بن عمرو الحسن : بضمهما. وحمزة الكسائي : بفتحهما، وابن الزبير وقتادة وجماعة. بفتح الباء، وسكون الخاء. وهي كلها لغات. قال الفرّاء : البخل
٢٤٦
مثقلة لأسد، والبخل خفيفة لتميم، والبخل لأهل الحجاز. ويخففون أيضاً فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة، وبعض بكر بن وائل بقولون البخل قال جرير :
تريدين أن ترضي وأنت بخيلةومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل
وأنشدني المفضل :
وأوفاهم أوان بخل
وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين :
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده لذو بخل كل على من يصاحب
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
واختلفوا في إعراب الذين يبخلون، فقيل : هو في موضع نصب بدل من قوله : من كان. وقيل : من قوله مختالاً فخوراً. أفرد اسم كان، والخبر على لفظ من، وجمع الذين حملا على المعنى. وقيل : انتصب على الذم. ويجوز عندي أن يكون صفة لمن، ولم يذكروا هذا الوجه. وقيل : هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف، أي : هم الذين. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في فخوراً، وهو قلق. فهذه ستة أوجه يكون فيها الذين يبخلون متعلقاً بما قبله، ويكون الباخلون منفياً عنهم محبة الله تعالى، وتكون الآية إذن في المؤمنين، والمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى مَن سمى الله، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم وهي : الخيلاء، والفخر، والبخل، والأمر به، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال. وقيل : الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء، واختلفوا في الخبر : أهو محذوف ؟ أم ملفوظ به ؟ فقيل : هو ملفوظ به وهو قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍا وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا﴾ ويكون الرابط محذوفاً تقديره : مثقال ذرة لهم، أو لا يظلمهم مثقال ذرة. وإلى هذا ذهب الزجاج، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه : انتظاماً واضحاً لأنّ سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهراً من قوله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً، بل مساق أنّ الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخباراً عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس. وقيل : هو محذوف فقدره الزمخشري : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة. وقدره ابن عطية : معذبون أو مجازون ونحوه. وقدره أبو البقاء : أولئك قرناؤهم الشيطان، وقدره أيضاً : مبغضون. ويحتمل أن يكون التقدير : كافرون ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ﴾ فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفراً حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبإظهار نبوّته. والأمر بالبخل لأتباعهم أي : بكتمان ذلك، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوّته وشريعته، كان قوله : وأعتدنا للكافرين، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم : أنها في المؤمنين، كان قوله : وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية، والآية على هذه التقادير. وقول الزجاج : في الكفار، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم. وتقدم تفسير البخل والأمر به، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول. وأعتدنا للكافرين : أي أعددنا وهيأنا. والعتيد : الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِاَآءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله :﴿كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ وهناً : ولا باليوم الآخر، وهناك : واليوم الآخر. قال السدّي، والزجاج وأبو سليمان الدّمشقي والجمهور : هم المنافقون نزلت فيهم، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعاً عن أنفسهم، لا إيماناً ولا حباً في الدّين. وقال ابن عباس : ومقاتل، ومجاهد : نزلت في اليهود. وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر. ووجه ابن عطية
٢٤٧


الصفحة التالية
Icon