﴿فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـا ؤُلاءِا مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبْلُا وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ﴾ : لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة، واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء، شرح للرسول صلى الله عليه وسلّم أحوال الكفار من قومه، وإنهم متبعو آبائهم كحال من تقدم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال. وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق، وأنَّ ديدنهم كديدن الأمم الماضية في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج. وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم، وعدة بالانتقام منهم، إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة، والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة. والتشبيه في قوله : كما يعبد، معناه أنّ حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم، فسينزل بهم مثله. وما يعبد استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية، وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي. وقرأ الجمهور : لموفوهم مشدداً من وفى، وابن محيصن مخففاً من أوفى، والنصيب هنا قال ابن عباس : ما قدر لهم من خير ومن شر. وقال أبو العالية : من الرزق. وقال ابن زيد : من العذاب، وكذا قال الزمخشري قال : كما وفينا آباءهم أنصباءهم، وغير منقوص حال من نصيبهم، وهو عندي حال مؤكدة، لأنّ التوفية تقتضي التكميل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٥
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف نصب غير منقوص حالاً
٢٦٥
من النصيب الموفى ؟ (قلت) : يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول : وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملاً وناقصاً ؟ انتهى وهذه مغلطة إذا قال : وفيته شطر حقه، فالتوفية وقعت في الشطر، وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثث كاملاً لم أنقصه منه شيئاً. وأما قوله : وحقه كاملاً وناقصاً، أما كاملاً فصحيح، وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما وناقصاً فلا يقال لمنافاته التوفية. والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، والمعنى : والله أعلم قل يا محمد لكل من شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء، فإنّ الله لم يأمرهم بذلك، وإنما اتبعوا في ذلك آباءهم تقليداً لهم وإعراضاً عن حجج العقول.
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُم وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ : لما بين تعالى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ونبوّة الرسول والقرآن الذي أتى به، بيّن أنّ الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاخرة مع أنبيائهم، فليس ذلك ببدع مِن مَن عاصر الرسول صلى الله عليه وسلّم، وضرب لذلك مثلاً وهو : إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها. والكتاب هنا التوراة، فقبله بعض، وأنكره بعض، كما اختلف هؤلاء في القرآن. والظاهر عود الضمير فيه على الكتاب لقربه، ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام. ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر. وجوز أن تكون في بمعنى على، أي : فاختلف عليه، وكان بنو إسرائيل أشدّ تعنتاً على موسى وأكثر اختلافاً عليه. وقد تقدم شرح :﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ﴾ والظاهر عود الضمير في بينهم على قوم موسى عليه السلام، إذ هم المختلفون فيه، أو في الكتاب. وقيل : يعود على المختلفين في الرسول من معاصريه. قال ابن عطية : وأنْ يعمهم اللفظ أحسن عندي، وهذه الجملة من جملة تسليته أيضاً.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٥


الصفحة التالية
Icon