وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير : وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضاً بعيد، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. والمناسبة وفي قوله : إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى. وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها، وذلك كله مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام : خباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبواه ياسر وسمية، وسالم، وحبر، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلى سبيلهما، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية، وهما أول قتيل في الإسلام، وعذب بلال وهو يقول :(أحد أحد) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره. وجمع الضمير في فعليهم على معنى من، وأفرد في شرح على لفظها. والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي : كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة. وقال الزمخشري : واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والضمير في بأنهم عائد على من في من شرح : ولما فعلوا فعل من استحب، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره، لكن من حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره. وقوله : استحبوا، هو تكسب منهم علق به العقاب، وأنّ الله لا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع، وهذا عقيدة أهل السنة. وقيل : ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان. وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها. وأولئك هم الغافلون : قال ابن عباس : عن ما يراد منهم في الآخرة. وقال الزمخشري : الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها. ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخر، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم : هم الخاسرون ولا غيرهم. ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم، والعذاب الأليم، واستحباب الدنيا، وانتفاء هدايتهم، والأخبار بالطبع وبغفلتهم. ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان، وحال من أكره، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن. قال ابن عطية : وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافاً. وقال ابن عباس : نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أنّ الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام. وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا، فنزلت حينئذ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم. وقال ابن إسحاق : نزلت في عمار، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد. قال ابن عطية :
٥٤٠
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨