أراد بردائه سيفه ثم قال : فاعتجر منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ : الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لبس الجوع والخوف، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى. وهو كلام حسن. ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف. وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله :﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌا فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ وأما قوله :﴿فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ﴾ فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان. وقرأ الجمهور : والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع. وروي العباس عن أبي عمرو : والخوف بالنصب عطفاً على لباس. قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله ولباس الخوف. وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع، ولا يذكر لباس. والذي أقوله : إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة، لأن المنقول عنه مستفيضاً مثل ما في سواد المصحف. وفي مصحف
٥٤٣
أبي بن كعب لباس الخوف والجوع، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله : كانت آمنة، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي جاءهم. والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله : وضرب الله مثلاً قرية، أي : قصة أهل قرية، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية، ثم على المضاف المحذوف كقوله :﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَـاتًا أَوْ هُمْ قَآاِلُونَ﴾. والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم، عائد على ما عاد عليه في قوله : بما كانوا يصنعون. وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الضمير في جاءهم لأهل تلك المدينة، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره، ويحتمل أن يكون لأهل مكة. وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر المثل قال : ولقد جاءهم ـ يعني أهل مكة ـ رسول منهم يعني ـ من أنفسهم ـ يعرفونه بأصله ونسبه، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله. ولما تقدم فكفرت بأنعم الله جاء هنا : واشكروا نعمة الله. وفي البقرة جاء :﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاكُم﴾ لم يذكر من كفر نعمته فقال :﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه. وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله : كلوا مما رزقناكم. وقوله : إنما حرم الآية تقدّم تفسير مثلها في البقرة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨
﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلَـالٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَا إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ﴾ : لما بين تعالى ما حرم، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم كالبحيرة، والسائبة، وفيما أحل كالميتة والدم، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام. وهذه السورة وهما مكيتان بأداة الحصر، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله :﴿أُحِلَّتْ لَكُم﴾ الآية وأجمعوا على أن المراد :﴿مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هو قوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ﴾ الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعاً ثانياً في أول مكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها. فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلك إليه. وقرأ الجمهور الكذب بفتح الكاف والباء وكسر الذال، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف تقديره : للذي تصفه ألسنتكم. وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي : ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، من غير استناد ذلك الوصف
٥٤٤