قلت) : يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن انتهى. ولا يحتاج إلى هذا، لأنّ المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أنْ يوحي لتظافر المعقول والمنقول على اعتقاده. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ﴾ فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل. وكذلك هنا أخبر تعالى أنّ ابراهيم لم يكن مشركاً، وأمر الرسول باتباعه في ذلك، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي، بل الدليل العقلي والدليل الشرعي تظافراً على ذلك. وقال ابن عطية : قال مكي : ولا يكون ـ يعني حنيفاً ـ حالاً من ابراهيم لأنه مضاف إليه، وليس كما قال لأنّ الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك : مررت بزيد قائماً انتهى. أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب، جازت الحال منه نحو : يعجبني قيام زيد مسرعاً، وشرب السويق ملتوتاً. وقال بعض النحاة : ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا﴾ أو كالجزء منه كقوله :﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل، وعلى الألفية لابن مالك. وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله : وليس كما قال، لأنّ الحال إلى آخره فقول بعيد عن قول أهل الصنعة، لأن الباء في بزيد ليست هي العاملة في قائماً، وإنما العامل في الحال مررت، والباء وإن عملت الجر في زيد فإنّ زيداً في موضع نصب بمررت، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجروراً بالحرف. ولما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام، وكان الرسول قد اختار يوم الجمعة، فدل ذلك على أنه كان في شرع ابراهيم، بين أنّ يوم السبت لم يكن تعظيمه، واتخاذه للعبادة من شرع ابراهيم ولا دينه، والسبت مصدر، وبه سمي اليوم. وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف. قال الزمخشري : سبتت اليهود إذا عظمت سبتها والمعنى : إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، واختلافهم فيه : أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أنْ يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً، وغير ما ذكر وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨
فإن قلت) : فما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرمين ؟ (قلت) : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى، ووجه آخر وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أنْ يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة، وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت، لأنّ بعضهم اختاره، وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك.
٥٤٨
وهو يحكم بينهم يوم القيامة، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه، وترك الاصطياد فيه انتهى. وهو كلام ملفق من كلام المفسرين قبله. وقال الكرماني : عدي جعل بعلي، لأن اليوم صار عليهم لا لهم، لارتكابهم المعاصي فيه انتهى. ولهذا قدره الزمخشري : إنما جعل وبال السبت. وقال الحسن : جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة. وقال ابن عباس : إن الله سبحانه قال : ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي، فقالوا : نريد السبت، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فهو أولى بالراحة. وقرأ أبو حيوة : جعل بفتح الجيم والعين مبنياً للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش : أنهما قرآ إنما أنزلنا السبت، وهي تفسير معنى لا قراءة، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، ولما استفاض عن الأعمش وابن مسعود أنهما قرآ كالجماعة.


الصفحة التالية
Icon