النبي ﷺ أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله ﷺ بعد موته حداثة ذلك، (١) تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله ﷺ فيشفيها، (٢) كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، (٣) فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. (٤) فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت، (٥) فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت، فاقشعررت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا. فقالا كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك! (٦) فأربيت وأبيت، فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، (٧) فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت: بلى، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري. فبذرت، وقلت: أطلعي! فأطلعت، وقلت: أحقلي! فأحقلت، ثم قلت: أفركي! فأفركت، ثم قلت: أيبسي! فأيبست، ثم قلت: أطحني! فأطحنت، ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. (٨) فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. (٩)
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا، وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان، لم يكن تفريقا على صحة، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة.
* * *
وقال آخرون: بل"السحر" أخذ بالعين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى :﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:-
١٦٩٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(٢) يشفيها : أي يجيبها بما يبلغ بها سكينة القلب فتبرأ من حيرتها. ومنه :"شفاء العي السؤال". والجهل والحيرة مرض القلوب والنفوس.
(٣) في ابن كثير ١ : ٢٦٠ :"فلم يكن شيء"، والصواب ما هنا وفي الدر المنثور ١ : ١٠١ وقولها :"فلم يكن كشيء" عبارة جيدة، بمعنى : لم يكن ما مضى كشيء يعد، بل أقل من القليل. والعرب تقول : تأخرت عنك شيئا، أي قليلا. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة. وقالت لهن :
اربعن شيئا، لعلني | وإن لامني فيما ارتأيت مليم |
(٤) في المطبوعة :"فقالا، اذهبي.. "، وأثبت ما في الدر المنثور وابن كثير، فهي أجود.
(٥) في المطبوعة :"فأبيت" بحذف"فأرببت". وأرب بالمكان لزمه ولم يبرحه. والزيادة من ابن كثير في الموضعين.
(٦) يقال : أنت على رأس أمرك، وعلى رئاس أمرك : أي في أوله وعلى شرف منه. وزعم الجوهري أن قولهم :"على رأس أمرك" من كلام العامة، وهذا الخبر ينقض ما قال.
(٧) في تفسير ابن كثير والدر المنثور :"فرأيت فارسا"، وما هنا صواب جيد.
(٨) في هذه الفقرة كلمات لم تثبتها كتب اللغة، سأذكرها في مدرج شرحها. "أطلعي فأطلعت" أي أخرجي شطأك، من قولهم : أطلع الزرع، إذا بدا أول نباته من الأرض. "أحقل الزرع : تشعب ورقه من قبل أن تغلظ سوقه. "أفركي فأفركت"، أي كوني فريكا. وهو حب السنبلة إذا اشتد وصلح أن يفرك. أفرك السنبل : صار فريكا، وهو حين يصلح أن يفرك فيؤكل. و"أيبسي فأيبست" أي كوني حبا يابسا، أيبس البقل : يبس وجف. "أطحني فأطحنت". أي كوني طحينا. ولم يرد في كتب اللغة :"أطحن"، ولكنها أتبعت هذا الحرف ما مضى من أخواته، وهي عربية سليمة ماضية على سنن اللغة في هذا الموضع. "أخبزي فأخبزت"، أي كوني خبزا يؤكل، وهذه أيضًا لم ترد في كتب اللغة، ولكنها عريقة كأختها السالفة. وقد قال ابن كثير أن إسناد هذا الحديث جيد إلى عائشة، وأن الحاكم صححه، فإن كان ذلك كما قالا، فلا شك في عربية هذه الألفاظ من طريق الرواية أيضًا.
(٩) الخبر : ١٦٩٥ - مضت قطعة منه، بإسناد آخر إلى ابن أبي الزناد : ١٦٩١.
وهذا الخبر نقله ابن كثير ١ : ٢٦٠ - ٢٦١، بطوله، عن الطبري. وقدم له بكلمة قال"وقد ورد في ذلك أثر غريب، وسياق عجيب في ذلك. أحببنا أن ننبه عليه". ثم قال بعد نقله. "فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها". وذكر أنه رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان، بأطول منه.
وذكره السيوطي ١ : ١٠١، ونسبه أيضًا للحاكم وصححه. والبيهقي في سننه.
وهي قصة عجيبة، لا ندري أصدقت تلك المرأة فيما أخبرت به عائشة؟ أما عائشة فقد صدقت في أن المرأة أخبرتها. والإسناد إلى عائشة جيد، بل صحيح.
الربيع بن سليمان : هو المرادي المصري المؤذن، صاحب الشافعي وراوية كتبه، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/٢/٤٦٤. ابن أبي الزناد : هو"عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان"، وهو ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة، في روايته عن أبيه، وفي رواية البغداديين عنه. والحق أنه ثقة، وخاصة في حديث هشام بن عروة. فقد قال ابن معين - فيما رواه أبو داود عنه عند الخطيب وغيره -"أثبت الناس في هشام بن عروة : عبد الرحمن بن أبي الزناد". وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في السنن ٣ : ٥٩، في حديث له صححه، وفيه حرف لم يروه غيره، فقال :"وإنما ذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ثقة حافظ".