مثلُ الذي عليهن بالمعروف"، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.
ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره:" وللرجال عليهن درجة"بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله:"ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها" لأن الله تعالى ذكره يقول:" وللرجال عليهن درجة".
* * *
ومعنى"الدرجة"، الرتبة والمنزلة.
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة. (١)
* * *
ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ جعل أبو بكر هذه الجملة حثًا وندبًا للرجال على السمو إلى الفضل، لا خبرًا عن فضل قد جعله الله مكتوبا لهم، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا.
وأبو جعفر رضي الله عنه لم يغفل قط عن هذا الترابط الدقيق بين معاني الكتاب، سواء كان ذلك في آيات الأحكام أو آيات القصص أو غيرها من نصوص هذا الكتاب. فهو يأخذ المعنى في أول الآية من الآيات ثم يسير معه كلمة كلمة وحرفًا حرفصا ثم جملة جملة غير تارك لشيء منه أو متجاوز عن معنى يدل عليه سياقها. وليس هذا فحسب بل هو لا ينسى أبدًا أن هذا الكتاب قد جاء ليعلم الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأنه جاء ليؤدبهم بأدب رب العالمين فيربط بين هذا الأدب الذي دل عليه التنزيل وبينته سنة رسول الله ويخرج من ذلك بمثل هذا الفهم الدقيق لمعاني كتاب الله مؤيدًا بالحجة والبرهان.
وأحب أن أقول إن التخلق بآداب كتاب الله يهدي إلى التفسير الصحيح كما تهدي إليه المعرفة بلغة العربن وبناسخ القرآن ومنسوخه وبسنة رسول الله ﷺ فالأخلاق أداة من أدوات العلم كسائر الأدوات. ولولا ما كان عليه هذا الإمام من عظيم الخلق ونبيل الأدب لما وقف وحده بين سائر المفسرين عند هذه الآية، يستخرج منها هذا المعنى النبيل العظيم الذي أدب الله به المطلقين وحثهم عليه وعرفهم به فضل ما بين اقتضاء الحقوق الواجبة والعفو عن هذه الحقوق، لمن وضعها الله تحت يده، فملكه طلاقها وفراقها، ولم يملكها من ذلك مثل الذي ملكه. فاللهم اغفر لنا واهدنا وفقهنا في ديننا وعلمنا من ذلك ما لم نكن نعلم، إنك أنت السميع العليم.