واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه الحجة الأولى أن الشيطان لو كان موجودا لكان إما أن يكون جسما كثيفا أو لطيفا والقسمان باطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسما كثيفا لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئا منها ومن جوز ذلك كان خارجا عن العقل وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساما لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية وأيضا يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن الحجة الثانية أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة إلا أنا لا نرى أثرا لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثرا من هذا الجن وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحدا ممن تاب على تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثرا ولا خبرا الحجة الثالثة أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس وإما الخبر وإما الدليل أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتا فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها والذين يقولون إنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوا والكذابون المخرفون وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة إخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلا مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر لأنا لا نعرف دليلا عقليا يدل على وجود الجن والشياطين فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء فوجب أن يكون القول بوجود هذه لأشياء باطلا فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين والجواب عن الأولى بأنا نقول إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسما فلم لا يجوز أن يقال أنه جوهر مجرد عن الجسمية واعلم أن القائلين بهذا القول فرق الأولى الذين قالوا النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد