المقدمة السادسة
في بيان أن التقرير الذي بيناه على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيبا ذاتيا لزوميا عقليا وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك فامتنع صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك وللترك بدلا عن الفعل إلا بضميمة تنضم إليها وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذا أو مؤلما وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبل أمر لازم لزوما ذاتيا واجبا فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائما مال طبعه إليه وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة فلو قدرنا شيطانا من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل وإن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل بل الحق أن نقول إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال والجواب أن كل ما ذكرتموه حق وصدق إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلا عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره ثم عند التذكر يترتب الميل عليه ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي إبراهيم ٢٢ إلا أنه بقي لقائل أن يقول فالإنسان إنما أقدم على المعصية بتذكير الشيطان فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر يثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه ولا بد لذلك الاعتقاد الحادث من سبب وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله
أعوذ بك منك والله أعلم
المسألة الحادية عشرة
اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتا خفية وحروفا خفية فكأن متكلما يتكلم معه ومخاطبا يخاطبه فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن