فكان ذلك معجزاً وإليه الإشارة بقوله وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ
أما قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ فتقريره أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض وحيث خلي هذا الكتاب عنه علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله ونظيره قوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء ٨٢ )
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاماً مفترى على الله تعالى وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار فقال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول فقال قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ ( البقرة ٢٣ ) وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال في سورة البقرة مّن مّثْلِهِ وقال ههنا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ
والجواب أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتاباً فقال في سورة البقرة فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يعني فليأت إنسان يساوي محمداً عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة وحيث ظهر العجز ظهر المعجز فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور فلا جرم قال تعالى في هذه الآية فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز
السؤال الثاني قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ هل يتناول جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار
الجواب هذه الآية في سورة يونس وهي مكية فالمراد مثل هذه السورة لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه
السؤال الثالث أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق قالوا إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن والمراد من التحدي أنه طلب منهم الإتيان بمثله فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر فوجب أن لا يصح التحدي
والجواب أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى وعلى هذه الحروف والأصوات ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة