والوجه الرابع أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ولم يتقرر ذلك في قلوبهم فظنوا أن محمداً عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة
الوجه الخامس أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه فأجاب الله تعالى عنه بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون ١١٥ ) وبقوله إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء ٧ ) وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل فقوله بَلْ كَذَّبُواْ لَّمّاً لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار
ثم قال فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا قال أهل التحقيق قوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نوراً على نور يهدي الله لنوره من يشاء
وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِي ئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ وكان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا أتبعه بقوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ منبهاً على أن الصلاح عنده تعالى كان في هذه الطائفة التبقية دون الاستئصال من حيث كان المعلوم أن منهم من يؤمن به والأقرب أن يكون الضمير في قوله بِهِ رجعاً إلى القرآن لأنه هو المذكور من قبل ثم يعلم أنه متى حصل الإيمان بالقرآن فقد حصل معه الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً واختلفوا في قوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ لأن كلمة يؤمن فعل مستقبل وهو يصلح للحال والاستقبال فمنهم من حمله على الحال وقال المراد أن منهم من يؤمن بالقرآن باطناً لكنه يتعمد الجحد وإظهار التكذيب ومنهم من باطنه كظاهره في التكذيب ويدخل فيه أصحاب الشبهات وأصحاب التقليد ومنهم