المصدق وتقريره أن نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع النقص والجهل وحب الدنيا ونحن نعلم بعقولنا أن سعادة الإنسان لا تحصل إلا بالاعتقاد الحق والعمل الصالح وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو أن كل ما قوى نفرتك عن الدنيا ورغبتك في الآخرة فهو العمل الصالح وكل ما كان بالضد من ذلك فهو العمل الباطل والمعصية وإذا كان الأمر كذلك كانوا محتاجين إلى إنسان كامل قوي النفس مشرق الروح علوي الطبيعة ويكون بحيث يقوى على نقل هؤلاء الناقصين من مقام النقصان إلى مقام الكمال وذلك هو النبي فالحاصل أن الناس أقسام ثلاثة الناقصون والكاملون الذين لا يقدرون على تكميل الناقصين والقسم الثالث هو الكامل الذي يقدر على تكميل الناقصين فالقسم الأول هو عامة الخلق والقسم الثاني هم الأولياء والقسم الثالث هم الأنبياء ولما كانت القدرة على نقل الناقصين من درجة النقصان إلى درجة الكمال مراتبها مختلفة ودرجاتها متفاوتة لا جرم كانت درجات الأنبياء في قوة النبوة مختلفة ولهذا السر قال النبي ( ﷺ ) ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى لما بين صحة نبوة محمد ( ﷺ ) بطريق المعجزة ففي هذه الآية بين صحة نبوته بالطريق الثاني وهذا الطريق طريق كاشف عن حقيقة النبوة معرف لماهيتها فالاستدلال بالمعجز هو الذي يسميه المنطقيون برهان الآن وهذا الطريق هو الطريق الذي يسمونه برهان اللم وهو أشرف وأعلى وأكمل وأفضل
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف القرآن في هذه الآية بصفات أربعة أولها كونه موعظة من عند الله وثانيها كونه شفاء لما في الصدور وثالثها كونه هدى ورابعها كونه رحمة للمؤمنين ولا بد لكل واحد من هذه الصفات من فائدة مخصوصة فنقول إن الأرواح لما تعلقت بالأجساد كان ذلك التعلق بسبب عشق طبيعي وجب للروح على الجسد ثم إن جوهر الروح التذ بمشتهيات هذا العالم الجسداني وطيباته بواسطة الحواس الخمس وتمرن على ذلك وألف هذه الطريقة واعتادها ومن المعلوم أن نور العقل إنما يحصل في آخر الدرجة حيث قويت العلائق الحسية والحوادث الجسدانية فصار ذلك الاستغراق سبباً لحصول العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة في جوهر الروح وهذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة لجوهر الروح فلا بد لها من طبيب حاذق فإن من وقع في المرض الشديد فإن لم يتفق له طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات الصائبة مات لا محالة وإن اتفق أن صادفه مثل هذا الطبيب وكان هذا البدن قابلاً للعلاجات الصائبة فربما حصلت الصحة وزال السقم
إذا عرفت هذا فنقول إن محمداً ( ﷺ ) كان كالطبيب الحاذق وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بتركيبها تعالج القلوب المريضة ثم إن الطبيب إذا وصل إلى المريض فله معه مراتب أربعة
المرتبة الأولى أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي ويأمره بالاحتراز عن تلك الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض وهذا هو الموعظة فإنه لا معنى للوعظ إلا الزجر عن كل ما يبعد عن رضوان الله تعالى والمنع عن كل ما يشغل القلب بغير الله
المرتبة الثانية الشفاء وهو أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض فكذلك الأنبياء عليهم السلام إذا منعوا الخلق عن فعل المحظورات صارت ظواهرهم مطهرة عن فعل ما لا


الصفحة التالية
Icon