مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني
واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلماً لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كفر فإنه يقال إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حياً وذلك جهل وكفر لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه ومن الناس من قال إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم
إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود الإله تعالى ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة فلهذا المعنى قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
والوجه الثاني هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل ولهذا المعنى قال تعالى وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ هذا المعنى
والوجه الثالث أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك وأيضاً فإنه تعالى قال لمحمد ( ﷺ ) قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه بل نقول إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا فذكر الحليم


الصفحة التالية
Icon