قوله :﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان ﴾ ها استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ.
فصل
﴿ حبب إليكم الإيمان ﴾ فجعله أحبّ الأديان إليكم « وزَّيَّنَهُ » حسنه « فِي قُلُوبِكُمْ » حتى اخترتموه ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) يريد الكذب « والعِصْيَانَ » جميع مَعَاصِي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال :﴿ أولئك هُمُ الراشدون ﴾.
فصل
قال ابن الخطيب : بعد ذكره الكلام المتقدم : وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل :
المسألة الأولى : لو قال قائل : إذا كان المراد بقوله :﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله ﴾ الرجوع إليه فلم يصرح بقوله :« فَتَبَيَّنُوا » وراجعوا النبِيَّ ﷺ ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول : فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المقتدم : هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعهة من قوله : رَاجعُوا شَيْخَكُم؛ لأن القائل يجعل وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته، لكنكم لا تعلمون قعوده، فهو قاعد فيجعل المراجعة أظهر من القعود، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال : راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق. وبين الكلامين يَوْنٌ بعنيد فكذلك قوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم. وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ.
فإن قيل : إذا كان المراد من قوله :« لَوْ يُطِعُكُمْ » بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به؟.
نقول : بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله :« ليس فيهما آلهة » لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال : لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال : لا يطيعكم لقائل قائل : لِمَا لاَ يُطِيعُ؟ فوجب أن يقال : لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم في لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] فإذا أطاعكم لا يفيده شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل. وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم.