فإن قيل : ما الحكمةُ في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة : وهي الرَّفث، والفُسُوق، والجدَال في الحج، مِنْ غير زِيَادَةٍ ولا نَقْصٍ؟
فالجواب : لأنه ثَبَتَ في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربَعَ قُوىً : قوّة شَهْوَانيةٌ بهيميَّةٌ، وقُوَّةٌ غَضَبيَّةٌ سبعيَّةٌ، وقُوَّةٌ وهمِيَّةٌ شيطانيَّةٌ، وقُوة عقليةٌ مَلكيَّةٌ، والمقصود من جميع العبادات قَهْرُ القُوَى الثلاث، أعْنِي : الشهوانية والغضبية والوهْمية.
فقوله :« فَلاَ رَفَثَ » إشارةٌ إلى قَهْرِ الشهوانية.
وقوله :« ولا فُسُوقَ » إشارةٌ إلى قَهْرِ القُوةِ الغضبيةِ التي توجِبُ المعصية والتمردَ.
وقوله :﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ إشارةٌ إلى قَهْرِ القوةِ الوهْمية، التي تحملُ الإنسانَ على الجدال في ذاتِ الله، وصفاتِهِ، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائِهِ، وهي البَاعِثَةُ على مُنَازعِةِ الناسِ، ومُمَاراتِهِم، والمخاصَمَةِ مَعَهُم في كل شَيْءٍ، فلمّا كان سَبَبُ الشَّرِّ مَحْصُوراً في هذه الأمور الثلاثة؛ لا جرم لا يَذْكُرْ معَها غيرَها.
فصل
من الناس مَنْ عاب الاستدلالَ، والبَحْثَ، والنَّظر، والجِدال؛ واحْتَجَّ بقوله تعالى :﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾، وهذا يَقْتَضِي نَفْيَ جميع أنواعِ الجدال، ولو كان الجِدَالُ في الدين طَاعَةٌ، لما نُهِيَ عَنْهُ في الحج، بل على ذلك التقدير، يكونُ الاشتغالُ بالجِدَالِ ضَمَّ طاعَةٍ إلى طَاعَةٍ، فيكون أَوْلَى بالترغيب فيه. وأيضاً قال تبارك وتعالى :﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [ الزخرف : ٥٨ ]، عابهم بكونِهم مِنْ أَهْل الجَدَلِ، فدلّ على الجدل مَذْمُومٌ، وقال تبارك وتعالى :﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٤٦ ] فنهى عن المنازعة.
وأمّا جمهور المتكلِّمين فقالوا : الجدَالُ في الدين طاعةٌ عظيمةٌ؛ لقوله تعالى :﴿ ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]، وحكى قول الكفَّار لنوح - عليه السلام - ﴿ قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ [ هود : ٣٢ ]، ومعلومٌ أَنَّ ذلك الجِدال، إنما كان لتقريرِ أُصُولِ الدين، فيُحملُ الجدالُ المذمومُ على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المالِ، والجَاهِ، والجدالُ الممدوحُ على الجَدَلِ في تقرير الحقِّ، ودعوةِ الخَلْقِ إلى سبيل اللِّهِ، والذَّبِّ عن دين الله.
قولُه :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا، وهي :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ، يُقالُ هُنَا. قال أبو البقاء رحمه الله « وَنَزِيدُ هنا وَجْهاً آخرَ : وهو أَنْ يَكُونَ » مِنْ خَيْر « في مَحلِّ نصبٍ نَعْتاً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ، تقديرُه : وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً كَائِناً مِنْ خَيْرٍ ».