﴿ يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات، وخصَّ الأكل؛ لأنه معظم الأمر؛ كقوله :﴿ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً ﴾ [ النساء : ١٠ ] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل، وإنما يصرف في المأكول، وقال - ﷺ - :« لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ، والمحلِّلَ لَهُ » فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل.
فصل في تقسيم الرِّبا
الرِّبا قسمان : ربا النَّسيئة، وربا الفضل.
أمَّا ربا النسيئة، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المدينون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحقِّ والأجل، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية.
وأمَّا « ربا الفضل » فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها، أو ما أشبه ذلك.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه كان لا يحرِّم إلاَّ القسم الأول، فكان يقول لا ربا إلاَّ في النَّسيئة، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريِّ : أشهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله - ﷺ - ما لم نسمع! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب، ثم قال أبو سعيدٍ : لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ، ما دمت على هذا.
ثمَّ روي أنه رجع عنه.
قال محمد بن سيرين : كنَّا في بيتٍ، ومعنا عكرمة، فقال رجلٌ : يا عكرمة، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ، ومعنا ابن عباس فقال : إنما كنت استحللت الصرف برأيي، ثم بلغني أنَّ رسول الله - ﷺ - حرَّمه، فاشهدوا أنِّي حرمته، وبرئت منه إلى الله.
وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله :﴿ وَأَحَلَّ الله البيع ﴾ يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً؛ وقوله :﴿ وَحَرَّمَ الربا ﴾ ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً، وذلك هو ربا النَّسيئة، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة؛ فثبت أنَّ قوله ﴿ وَأَحَلَّ الله البيع ﴾ يتناول ربا الفضل، وقوله :﴿ وَحَرَّمَ الربا ﴾ لا يتناوله؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد : هل يجوز أم لا؟
وأمَّا جمهور العلماء، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أمَّا القسم الأوَّل، ربا النَّسيئة فبالقرآن، وأمَّا ربا الفضل، فبالخبر، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة، ثم اختلفوا.