[ ق : ٣٧ ]، والمعنى : لمن سمع الذِّكرى بفهم حاضرٍ، وعكسه قوله تعالى :﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً ﴾ [ لقمان : ٧ ]، وقولهم بعد ذلك :« وَأَطَعْنَا » فدلَّ على أنَّهم ما أَخلُّوا بشيءٍ من التَّكاليف، فجمع تعالى بهذين اللَّفظين كلَّ ما يتعلَّق بأحوال التَّكاليف علماً وعملاً.
قوله :« غُفْرَانَكَ » منصوبٌ : إمَّا على المصدرية، قال الزمخشريُّ :« منصوبٌ بإضمار فعله، يقال :» غُفْرَانَكَ، لاَ كُفْرَانَكَ « أي : نستغفرك ولا نكفرك، فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهب سيبويه - رحمه الله -، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملةٍ طلبية؛ كأنه قيل :» اغْفِرْ غُفْرَانَكَ « ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو :» سقياً ورعياً « ونقل ابن عطيَّة هذا قولاً عن الزَّجَّاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها؛ لنيابتها عنه، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور، فعدَّها تارةً مع ما يلزم فيه إضمار الناصب؛ نحو :» سُبْحَانَ اللهِ، [ ورَيْحَانَهُ « ]، و » غُفْرَانَكَ لاَ كُفْرَانَكَ «، وتارةً مع ما يجوز إظهار عامله، والطلب في هذا الباب أكثر، وقد تقدَّم في أول الفاتحة نحو من هذا.
وقال الفرَّاء : هو مصدرٌ وقع موقع الأمر، فنصب وهو أولى من قول من يقول :» نَسْأَلك غُفْرَانَكَ « لأن هذه الصِّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى، فقد كانت أدلَّ عليه؛ ونظيره : حمداً وشكراً، أي : أحْمَدُ حَمْداً وأشْكُر شُكْراً.
فإن قيل : إن القوم لما قبلوا التَّكاليف، وعملوا بها، فأيُّ حاجةٍ لهم إلى طلب المغفرة؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التَّكاليف، فهم خائفون من صدور تقصيرٍ، فلمَّا جوَّزوا ذلك، طلبوا المغفرة للخوف من التَّقصير.
الثاني : قال - ﷺ - » [ إِنَّهُ لَيُغَانُ ] عَلَى قَلْبِي، حَتّى أَنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّة «، وذكروا لهذا الحديث تأويلات؛ من جملتها : أنَّه - ﷺ - كان يترَقَّى في جملة العبوديَّة، فكان كلما ترقَّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوَّل، رأى الأوَّل حقيراً، فيستغفر الله منه؛ فكذلك طَلَبُ الغفران في هذه الآية. والمصير : اسم مصدر من صار يصير : أي : رجع، وقد تقدَّم في قوله :﴿ المحيض ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] أنَّ في المفعل من الفعل المتعلِّ [ العين ] بالياء ثلاثة مذاهب، وهي : جريانه مجرى الصحيح، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح، والزمانُ والمكان بالكسر، نحو : ضَرَبَ يَضْرِب مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماع، فلا يتعدَّى، وهو أعدلها، ويطلق المصير على المِعَى، ويجمع على مصران، كرغيفَ ورغفان، ويجمع مصران على مصارين.
فصل
في قوله - تبارك وتعالى - :﴿ وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ﴾ فائدتان :
إحداهما : أنَّهم كما أقرُّوا بالمبدإ؛ فكذلك أقرُّوا بالمعاد؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد.
والثانية : أن العبد متى علم أنَّه لا بدَّ من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلاَّ حكم الله - تعالى -، ولا يستطيع أحدٌ [ أن ] يشفع إلاَّ بإذن الله، كان إخلاصه في الطَّاعات أتمَّ، واحترازه عن السَّيِّئات أكمل.