فصل
وفي المراد بأهل الكتاب ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد : نصىرَى نجرانَ.
الثاني : اليهود من المدينة.
الثالث : أنها نزلت في الفريقين، ويدل على هذا وجهان :
الأول : أن ظاهر اللفظ يتناولهما.
الثاني : قال المفسّرون - في سبب النزولِ - : قدم وَفْد نجران المدينة، فالتَقَوْا مع اليهود، واختصموا في إبراهيم - عليه السلامُ - فزعمت النصارى أنه كان نَصْرانيًّا، وأنه على دينهم، وأنهم وهم على دينه وأوْلَى الناس به، فقال لهم رسول الله ﷺ :« كِلاَ الْفَرِيْقَيْنِ بَرِيءٌ من إبْرَاهِيمَ وَدِيْنِهِ؛ كَانَ حَنيفاً مسلِماً، وَأنَا عَلَى دِينِهِ فاتَّبِعُوا دِينَهُ الإسْلامَ » فقالت اليهودُ : يا محمدُ، ما تريد إلا أن نتخذَك رَبًّا كما اتخذت النصارى عيسى ربًّا، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك، كما قالت اليهود في عُزَيْرٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن الخطيب :« وعندي أن الأقرب حَمْلُه على النصارى؛ لما بيَّنَّا في وجه النَّظْم أنه لما أورد - الدلالة عليهم أولاً، ثم باهلهم ثانياً، فعدل عن هذا المقام إلى الكلام المبني على غاية الإنصاف، وترك المجادلةِ، وطلبِ الإقْحام والإلزام، ويدل عليه أنه خاطَبَهُم - هنا - بقوله :﴿ ياأهل الكتاب ﴾، وهذا الاسم من أحسن الأسماء، وأكمل الألقاب؛ حيث جعلهم أهلاً للكتاب، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن : حَامِلَ كتاب الله العزيز، وللمفسِّر يا مُفَسِّرَ كلام اللهِ، فإن هذا اللقبَ يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطَب، وتَطْييب قَلْبِه، وذلك إنما يُقال عند عدول الإنسانِ مع خَصْمه عن طريقة اللَّجَاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنْصَافِ ».
قوله :﴿ تَعَالَوْا ﴾ هَلُمُّوا ﴿ إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ ﴾ فيها إنصافٌ من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء : هو العَدْل والإنصاف؛ لأن حقيقةَ الإنصاف إعطاء النصف، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف؛ لكي يُسَوِّي بين نفسه وبين الغير. ثم إنه تعالى ذكر ثلاثةَ أشياءَ :
الأول : أن لا نعبدَ إلا اللهَ. الثاني : أن لا نُشْركَ به به شيْئاً.
الثالث : أن لا يتخذَ بعضُنا أرْباباً مِن دونِ اللهِ.