وكونها بمعنى « بعد » و « بدل » بعيدٌ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ. واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة :
أولاً : غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال.
ثانياً : غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك.
ثالثاً : غمُّهم بما وصل إلى الرسول ﷺ.
رابعاً : غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها.
خامساً : غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ، وذلك من أشق الأشياء؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ، فإن فعل خاف القتلَ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها.
سادسها : غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ.
سابعها : غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين.
ثامنها : غمُّهم حين أشرف أبو سفيان، وذلك أن رسول الله ﷺ انطلق يومئذٍ يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه، وأراد أن يَرْمِيَه، فقال : أنا رسولُ اللهِ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله ﷺ وفرح رسول الله ﷺ حين رأى مَنْ يمتنع به، فأقبلوا على المشركين، يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه، حتى وقفوا بباب الشِّعْب، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله ﷺ ليس لهم أن يَعْلونا، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض، ثم بدأ أصحابه، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم.
وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال : وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله :﴿ غُمّاً بِغَمٍّ ﴾ اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي : أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصيةِ، فكأنه - تعالى - قال : أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى.
والغَمّ : التغطية، يقال : يوم غَمٌّ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه : غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ، وغَمَّ الأمرُ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ.
قوله :﴿ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ ﴾ هذه لام « كي » وهي لام جرٍّ، والنصب - هنا - ب « كي » لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ :
أحدهما : أنه ﴿ فَأَثَابَكُمْ ﴾ وفي « لا » على هذا وجهانِ :
الأول : أنها زائدةٌ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن، والمعنى : أنه غمهم ليُحْزِنهم؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم، قاله أبو البقاء.


الصفحة التالية
Icon