وإن كان قائل هذا القول من أهْلِ الكتاب فهو أيضاً مشكل؛ لأنهم لا يقولون هذا القَوْلَ، وكيف يقولونه مَعَ أن مَذْهَبَهُمْ أن التوارة كِتَابٌ أنزله الله على مُوسَى، والإنجيل كتابُ أنزله الله على عيسى - ﷺ - وأيضاً فهذه السُّورة مَكِيَّةٌ، والمُنَاظَرَةُ التي وقعت بين رسول الله ﷺ وبين اليهود والنَّصَارى كلها مَدَنيةٌ، فكيف يمكن حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليها، فهذا تقدير الإشكال في هذه الآية.
واعلم أن النَّاسَ اختلفوا فيه على قولين، والقول أن هذه الآية نزلت في حقِّ اليهود، وهو المشهرو عند الجمهور.
وقال ابن عباسِ وسعيد بن جُبَيْرٍ :« إن مالك بن االصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رَجُلاً سميناً فدخل على رسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ :» انْشدُكَ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوارة على مُوسَى هَلْ تجد في التَّوْارةِ أن اللَّهَ يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَن وأنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ وقدْ سَمِنْتَ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ اليَهُودُ « فضحك القوم فغضب [ مالك ] بن الصيف ثم التفت إلى عمر، فقال :» مَا أنْزَل اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ « فقال له قومه : ويلك؟ ما هذا الذي بلغنا عنك، [ ألَيْسَ ] أن الله أنزل التوارة على مُوسَى، فَلِمَ قلت : ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف : إنه أغْضَبَنِي، فقلت ذلك فقالوا له : وأنت إن غضبت تَقُولُ على الله غَيْرَ الحق، فنزعوه عن رياستهم؛ وجعلوا مكانة كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ.
وقال السُّدِّيُّ : نزلت في فنحَاصِ بْنِ عازوراء وهو قائل هذه المَقالةِ.
قال ابن عباس : قالت اليهودك يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال :»
نَعَمْ «. قالوا : والله ما أنزل من السماء كتاباً، فأنزل الله تبارك وتعالى » مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ « ؛ إذ قالوا :» مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ « وفي سبب النزول سؤالات :
السؤال الأول : لَفْظُ الآية وإن كان مُطْلَقاً إلاَّ أنه يَتَقَيَّدُ بحسب العُرْفِ ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج [ من الدار ] فغضب الزَّوْجُ، فقال : إن خرجت من الدار فأنْتِ طالق، فإن كثيراً من الفهاء قالوا : اللفظ وإن كان مُطْلَقاً إلا أنه بِحَسبِ العُرْفِ يتَقَيَّدُ بتلك المرأة، فكذا هاهنا فقوله :»
مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ « وإن كان مُطْلٌقاً بحسب أصْلِ اللغة إلاَّ أنه يتقيد بتلك الواقِعَةِ بحسب العُرْقِ، فكان لقوله تعالى :﴿ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ﴾ في أنه يبغض الحَبْرَ السمين، وإذا كان هذا المُطْلَق مَحْمُولاً لعى هذا المُقَيَّدِ لم يكن قله :﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى ﴾ مبطلاً لكلامه.


الصفحة التالية
Icon