فإن قيل : هَبْ أنه حصل في التوارة آياتٌ دالَّةٌ على نبوة محمد ﷺ إلاَّ أنها قَلِيلةٌ ولم يخفوا من التوارة إلاَّ تلك الآيات، فكيف قال :« ويخفون كَثِيراً ».
فالجواب أن القوم [ كانوا ] يخفون الآيات الدَّالَّة على نبوة محمد ﷺ فكذلك يخفون الآيات المشتملة على [ آيات الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا ] إخفاء الآية الدالة على رجم [ الزاني ] المُحْصَنِ.
قوله :« قل الله » لفظ الجلالة يجوز فيها وَجْهَان :
أحدهما : أن يكون فاعلاً لفعل محذوف أيم : قل أنزلهن وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله :﴿ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز ﴾ [ الزخرف : ٩ ]
والثاني أنه مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره : والله أنزله، ووجهه مناسبة مطابقة الجواب للسؤال، وذلك أن جملة السؤال اسمية، فلتكن جملة الجواب كذلك.
ومعنى الآية الكريمة : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلاَّ فقل فأنت الله الذي أنزلت، أي أن العقل السليم والطَّبْعَ المُسْتَقِمَ يشهد بأن الكِتَابَ الموصُوفَ بالصفات المذكورة المؤيد قَوْلَ صابه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل ظاهراً لظهور الحُجَّةِ القَاطِعَةِن لا جَرَمَ قال تبارك وتعالى لمحمد ﷺ : قل لهم المُنَزِّلُ لذلك الكتاب هو الله، ونظيره قوله تعلى :﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] كما أن الرجل الذي يريد إقامَةَ الدلالة على الصَّانِعِ يقول : منِ الذي أْحْدَثَ الحياة بعد عَدَمِهَا، ومن الذي أحْدَثَ العَقْلَ بعد الجَهَالةِ ومن الذي أودع الحدَقَةَ القُوَّةَ البَاصِرَة، وفي الصِّمَاخِ القُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثم إن هذا القائل بِعَيْنِهِ يقول : الله، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حَيْثُ يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء اقر الخَصْمُ به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا.
قوله :﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ يجوز أن يكون « فِي خَوْضِهِمْ » متعلقاً ب « ذرهم »، وأن يتعلق ب « يلعبون »، وأن يكون حالاً من مفعول « ذَرْهُمْ » وأن يكون حالاً من فاعل « يلعبون » [ فهذه أربعة أوجه ] وأما « يلعبون » فيجوز أن يكون حالاً من مفعول « ذرهم ».
ومن منع أن تتعدَّد الحال لواحد لم يُجِزء حينئذ أن يكون « في خوضهم » حالاً من مفعول « ذرهم »، بل يجعله إما متعلقاً ب « ذرهم »، كما تقدَّم أو ب « يلعبون »، أو حالاً من فاعله.


الصفحة التالية
Icon