قال شهاب الدِّين : وهذا الذي أورده الشَّيْخُ لا يرد لما تقدَّم من قوله الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدرِهِ بهذا التأويل، وقد تقدَّم ذلك التأويل.
وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه اتُّسِعَ في هذا الظرف، فأسْنِدَ الفعل إليه، فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها، ويدُلُّ على ذلك قوله تعالى :﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ] فاسْتعمَلَهُ مجرواً ب « مِنْ » وقوله تعالى :﴿ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ [ الكهف : ٧٨ ] ﴿ مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾ [ الكهف : ٦١ ] ﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ] وحكى سيبويه :« هُوَ أحْمَرُ بَيْنِ العَيْنينِ » وقال عنترة :[ الكامل ]

٢٢٤٦- وَكَأنَّمَا أقِصُ الإكَامَ عَشِيَّةً بِقَريبِ بَيْنِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ
وقال مهلهل :[ الوافر ]
٢٢٤٧- كَأنَّ رَِمَاحَنَا أشْطَانُ بِئْرٍ بَعِيدَةِ بَيْنِ جَالَيْهَا جَرُورِ
فقد استعمل في هذه المواضع كلها مُضَافاً إليه متصرّفاً فيه، فكذا هنا، ومثله قوله :
[ الطويل ]
٢٢٤٨-................... وَجِلْدَةُ بَيْنِ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ
وقوله في ذلك :[ البسيط ]
٢٢٤٩-....................... إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنِ الزَّنْجِ والرُّومِ
وقول القائل في ذلك :[ الطويل ]
٢٢٥٠- وَلَمْ يَتْرُكِ النَّبْلُ المُخَالِفُ بَيْنُهَا أخاً لاَحَ [ قَدْ ] يُرْجَى وَمَا ثَوْرَةُ الهِنْدِ
يروى برفع « بينهما » وفتح على أنها فعل ل « مُخَالف »، وإنما بُنِيَ لإضافتِهِ إلى ذلك ومثله في ذلك :« أمام » و « دون »، كقوله :[ الكامل ]
٢٢٥١- فَغَدَتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أنَّهُ مَوْلَى المخَافَةِ خَلْفُهَا وأمَامُهَا
برفع « أمام »، كقول القائل في ذلك :[ الطويل ]
٢٢٥٢- ألَمْ تَرَ أنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِقَتِي وبَاشَرْتُ حَدَّ والمَوْتِ والمَوْتُ دُونُهَا
برفع « دون ».
الثاني : أن « بين » اسم غير ظَرْفٍ، وإنم منعناها الوَصْل، أي : لقد تقطَّع وصلكم.
ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن « بَيْنَ » مصدر « بان يبينُ بَيْنَاً » بمعنى « بَعْدَ »، فيكون من الأضْدَاد، أي : إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يستعمل للوصل والفراق ك « الجون » للأسود، والأبيض، ويعزى هذا لأبي عمرو، وابن جني، والمهدوي، والزهري، وقال أبو عبيدة : وكان أبو عمرو يقول : معنى « تقطع بينكم » تقطع فصارت هنا اسماً بغير أن يكون معها « ما ».
قوال الزجاج : والرفع أجود، ومعناه : لقد تقطع وصلكم، فقد أطلق هؤلاء أن « بين » بمعنى الوصل، والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا ان ابن عطية طعن فيه، وزعم أنه لم يسمع من العرب البَيْن بمعنى الوَصْل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية الكريمة، لو أنه أري باالبين الافْتِرَاقُ، وذلك عن الأمر البعيد، والمعنى : لقد تقطعت المسافةُ بينكن لطولها، فعبر عن ذلك بالبين.
قال شهاب الدين : فظاهر كلام ابن عطية يُؤذِنُ بأنه فهم أنها بمعنى الوَصْل حقيقة، ثم ردَّهُ بكونه لم يسمع من العرب، وهذا منه غير مرضٍ، لأن أبا عمرو وأبا عبيد وابن جني، والزهراوي، والمهدوي، والزجاج أثمة يقبل قولهم.


الصفحة التالية
Icon