واعلم : أنَّه يمكن أن يقدَّر في الآية إضمار، تقديره : دعوا اللهَ مخلصين لهُ الدِّ ] ن، مريدين أن يقولوا : لَئِنْ أنْجَيْتَنا، ويمكن أن يقال : لا حاجة إلى الإضمار؛ لأنَّ قوله :« دعَوُا اللهَ » يصير مُفَسَّراً بقوله :﴿ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ فهم في الحقيقة، ما قالُوا إلاَّ هذا القول.
ولمَّا حكى عنهم التَّضرع الكامل، ذكر أنَّهُم بعد الخلاص من تلك البليَّة، أقدموا في الحالِ على البغي في الأرض بغير الحقِّ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : يريد : بالفسادِ والتَّكذيب والجُرْأة على الله - عزَّ وجلَّ -.
قوله :﴿ ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ أي : وباله راجعٌ إليها، وقيل : المرادُ : بغي بعضكم على بعض، كقوله :﴿ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٦٦ ]، ﴿ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، ﴿ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١١ ] والمعنى : أنَّ بغي بعضهم على بعض، منفعة الحياة الدنيا، ولا بقاء لها، والبغي من منكرات المعاصي، قال : صلوات الله وسلامه عليه - :« أسْرَعُ الخَيْرِ ثواباً صلةُ الرَّحم، وأعجلُ الشَّرِّ عقاباً البغي، واليمين الفاجرة »، وروي :« ثنتان يعجلهما الله - تعالى - في الدنيا : البَغْي، وعقُوقُ الوالدين » وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - :« لو بغى جَبَلٌ على جبلٍ، لاندَكَّ الباغِي ».
وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - ثلاثٌ من كنَّ فيه كنَّ عليه : البغيُ، والنَّكْثُ، والمَكْرُ، قال - تعالى - :﴿ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾، ﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]، ﴿ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ ﴾ [ الفتح : ١٠ ].
قوله :﴿ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ﴾ قرأ حفص :« مَتَاعَ » بالنصب، ونصبُه على خمسة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوب على الظرف الزمانيُّ، نحو :« مَقْدمَ الحجَّاج »، اي : زمن متاع الحياة.
والثاني : أنَّه منصوبٌ على المصدرِ الواقع موقع الحالِ، أي : مَتَمتِّعينَ، والعاملُ فِي هذا الظرف، وهذه الحال : الاستقرارُ الذي في الخبر، وهو « عليكم »، ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصلُ بين المصدر، ومعموله بالخبر، وقد تقدَّم أنَّه لا يخبرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمام صلته.
والثالث : نصبه على المصدر المؤكَّد بفعلٍ مقدرٍ، أي : يتمتَّعُون متاع الحياة الدُّنْيا.
الرابع : أنه منصوبٌ على المفعول به، بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي : يَبْغُون متاع الحياةِ الدُّنيا، ولا جائزٌ أن ينتصب بالمصدر؛ لما تقدَّم.
الخامس : أن ينتصب على المفعول من أجله، أي : لأجل متاع، والعامل فيه : إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في « عَلَيْكُم »، وإمَّا فعلٌ مقدَّرٌ، ويجوز أن يكون النَّاصبُ له، حال جعله ظرفاً، أو حالاً، أو مفعولاً من أجله : نفس البغي، لا على جعل « عَلَى أنْفُسِكُم » خبراً، بل على جعله متعلِّقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ؛ لطول الكلام، والتقدير : إنَّما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة مذمومٌ، أو مكروهٌ، أو مَنْهيٌّ عنه.


الصفحة التالية
Icon