ثم جعلت كل يوم تطعم المساكين وتجمعهم، فجاءها رسولها في صورته فجعلت إحدى صورتيه تليها والأخرى على باب الأسطوانة، فكانت تطعم المساكين كل يوم، فإذا فرغوا عرضتهم واحداً واحداً فيخرجون، حتى جاء ذو القرنين في ثياب المساكين فدخل مدينتها ثم جلس مع المساكين إلى طعامها، فقربت إليهم الطعام فلما فرغوا أخرجتهم واحداً واحداً وهي تنظر إلى صورته في ثياب المساكين، حتى مر ذو القرنين فنظرت إلى صورته فقالت : أجلسوا هذا وأخرجوا من بقي من المساكين. فقال لها : لم أجلستني وإنما أنا مسكين... !؟ قالت : لا... أنت ذو القرنين، هذه صورتك في ثياب المساكين، والله لا تفارقني حتى تكتب لي أماناً بملكي أو أضرب عنقك. فلما رأى ذلك كتب لها أماناً فلم ينج أحد منه غيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال : ملك ذو القرنين اثنتي عشرة سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة، عن عبيدالله بن أبي جعفر رضي الله عنه قال : كان ذو القرنين في بعض مسيره فمر بقوم قبورهم على أبواب بيوتهم، وإذا ثيابهم لون واحد وإذا هم رجال كلهم ليس فيهم امرأة، فتوسم رجلاً منهم فقال له : لقد رأيت شيئاً ما رأيت في شيء من مسيري... ! قال : وما هو؟ فوصف له ما رأى منهم. قالوا : أما هذه القبور على أبوابنا، فإنا جعلناها موعظة لقلوبنا تخطر على قلب أحدنا الدنيا فيخرج فيرى القبور ويرجع إلى نفسه فيقول : إلى هذا المصير وإليها صار من كان قبلي.
وأما هذه الثياب، فإنه لا يكاد الرجل منا يلبس ثياباً أحسن من صاحبه إلا رأى له بذلك فضلاً على جليسه.
وأما قولك : رجال كلكم ليس معكم نساء، فلعمري لقد خلقنا من ذكر وأنثى، ولكن هذا القلب لا يشغل بشيء إلا شغل به، فجعلنا نساءنا وذريتنا في قرية قريبة وإذا أراد الرجل من أهله ما يريد الرجل، أتاها فكان معها الليلة والليلتين ثم يرجع إلى ما ههنا، لأنا خلونا ههنا للعبادة. فقال : ما كنت لأعظكم بشيء أفضل مما وعظتم به أنفسكم، سلني ما شئت. قال : من أنت؟ قال أنا ذو القرنين. قال : ما أسألك وأنت لا تملك لي شيئاً؟ قال : وكيف وقد آتاني الله من كل شيء سبباً؟ قال : أتقدر على أن تأتيني بما لم يقدر لي ولا تصرف عني ما قدر لي؟
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال : لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملكها : يا ذا القرنين، صف لي الناس. قال : إن محادثتك من لا يعقل بمنزلة من يضع الموائد لأهل القبور، ومحادثتك من يعقل بمنزلة من يبلّ الصخرة حتى تبتل، أو يطبخ الحديد يلتمس أدمه ونقل الحجارة من رؤوس الجبال، أيسر من محادثتك من لا يعقل.


الصفحة التالية
Icon