البحر المحيط، ج ١، ص : ١٨٣
تحت أهلها، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها. وقيل : المعنى في من تحتها : من جهتها. وقد روي عن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة.
وإذا صح هذا النقل، فهو أبلغ في النزهة، وأحلى في المنظر، وأبهج للنفس. فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيا وماؤه صافيا منسابا على وجه أرضه، لا سيما الجنة، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ، فتتكسر تلك المياه على ذلك الحصى، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلئ له خريرا، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي، رحمه اللّه تعالى، من كلمة :
وتحدث الماء الزلال مع الحصى فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :«إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعده».
ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى : فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «١» الآية. ولما كانت الجنة لا تشوق، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعا بذكر الأنهار، مقدما هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف. قال ابن عطية : نسب الجري إلى النهر، وإنما يجري الماء وحده توسعا وتجوزا، كما قال تعالى : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢»، وكما قال الشاعر :
نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس
انتهى كلامه.
وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال : والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، انتهى كلامه. والألف واللام في الأنهار للجنس، قال الزمخشري : أو يراد أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى :
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «٣»، وهذا الذي ذكره الزمخشري، وهو أن الألف واللام تكون عوضا من الإضافة، ليس مذهب البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج
(١) سورة محمد : ٤٧/ ١٥.
(٢) سورة يوسف : ١٢/ ٨٢.
(٣) سورة مريم : ١٩/ ٤.