البحر المحيط، ج ١، ص : ٦١٣
على معنى النسب، أي ذا أمن، كقولهم : عِيشَةٍ راضِيَةٍ «١»، أي ذات رضا، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمنا كقولهم : نهارك صائم وليلك قائم. وهل الدعاء بأن يجعله آمنا من الجبابرة والمسلطين، أو من أن يعود حرمه حلالا، أو من أن يخلو من أهله، أو آمنا من القتل، أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجذب، أو من دخول الدجال، أو من أصحاب الفيل؟ أقوال. ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة، فالواقع يرده، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا، كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج بن يوسف، والقرامطة، وغيرهم. وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب، فهي أكثر بلاد اللّه قحطا وجدبا. وقال القفال : معناه مأمونا فيه، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية، لا يتعرض إليه عند ما يعلم أنه من سكان الحرم.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة، دعا اللّه للبلد بالأمن، وبأن يجبى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح. ولما سمع في الإمامة قوله تعالى : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. قيد هنا من سأل له الرزق فقال : مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، والضمير في منهم عائد على أهله. دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب، لأن الكافر لا يدعى له بذلك. ألا ترى
أن قريشا لما طغت، دعا عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين، كسني يوسف»
، وكانت مكة إذ ذاك قفرا، لا ماء بها ولا نبات، كما قال : بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فبارك اللّه فيما حولها، كالطائف وغيره، وأنبت اللّه فيه أنواعا من الثمر. وروي أن اللّه تعالى لما دعاه إبراهيم، أمر جبريل فاقتلع فلسطين
، وقيل : بقعة من الأردن، فطاف بها حول البيت سبعا، فأنزلها بواد، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف، وقال بعضهم :
كل الأماكن إعظاما لحرمتها تسعى لها ولها في سعيها شرف
وذكر متعلق الإيمان، وهو اللّه تعالى واليوم الآخر، لأن في الإيمان باللّه إيمانا بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبرا

_
(١) سورة الحاقة : ٦٩/ ٢١.


الصفحة التالية
Icon