البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٠
فارتفع المجاز بقوله : مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ، أي ما صرفهم، والضمير عائد على النبي صلى اللّه عليه وسلم، والمؤمنين عن قبلتهم. أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمنا طويلا، فصحت الإضافة.
وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة. هكذا ذكر بعض المفسرين، وليس ذلك إجماعا، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة، وأنه كان يصلي إليها عند ما فرضت الصلاة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم. فلما توجه إلى بيت المقدس، قال أهل مكة، زارّين عليه وعائبين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا على حذف مضاف، أي على استقبالها. والاستعلاء هنا مجاز، وحكمته الهم لمواظبتهم على امتثال أمر اللّه في المحافظة على الصلوات. صارت القبلة لهم كالشيء المستعلى عليه، الملازم دائما. وفي وصف القبلة بقوله : الَّتِي كانُوا عَلَيْها، ما يدل على تمكن استقبالها، وديمومتهم على ذلك. والضمير في قوله : قبلتهم وكانوا، ضمير المؤمنين. وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائدا على السفهاء، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود، وهي إلى المغرب، وقبلة النصارى، وهي إلى المشرق، والعرب لم يكن لهم صلاة، فيتوجهون إلى شيء من الجهات. فلما توجه نحو الكعبة، استنكروا ذلك فقالوا : كيف يتوجه إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس، أكان بوحي متلوّ؟ أو بأمر من اللّه غير متلو؟ أو بتخيير اللّه رسوله في النواحي؟ فاختار بيت المقدس، قاله الربيع أو باجتهاده بغير وحي، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية. أقوال :
الأول : عن ابن عباس، روي عنه أنه قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة : وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها إلى بيت المقدس، فقيل : ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وقيل : تسعة، أو عشرة أشهر. وقيل : ثلاثة عشر شهرا. وقيل : من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل، إثر الإسراء، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، ثم هاجر في ربيع الأول، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس، إلى رجب من سنة اثنتين. وقيل : إلى جمادى. وقيل : إلى نصف شعبان. وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم صلى ركعتي الظهر، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة
، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسخ السنة بالقرآن، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن، واستدل بها أيضا على بطلان قول من يزعم أن النسخ بداء.
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ : الأمر متوجه للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وفيه تعليم له صلى اللّه عليه وسلم كيف يبطل


الصفحة التالية
Icon