البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣٥
يكون معمولا ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فبه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائنا من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء أي يسبقه شيء. وجوّز ابن عطية أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده : فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة. ودل الممترين على وجودهم، ونهى أن يكون منهم، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك : لا تكن ظالما، أبلغ من قولك : لا تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك : لا تكن ظالما نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عموما، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى : فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «١»، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ «٢». والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك، أي في كل فرد فرد من أكوانك، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم، فتصير كأن فيه نصا على سائر الأكوان، بخلاف لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق، لأن ما جاء من اللّه تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
، لما ذكر القبلة التي أمر المسلمون بالتوجه إليها، وهي الكعبة، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها، وأن كلا من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها، أعلم أن ذلك هو بفعله، وأنه هو المقدر ذلك، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته. ففي ذلك تنبيه على شكر اللّه، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك. وقرأ الجمهور : ولكل : منونا، وجهة : مرفوعا،
(١) سورة يونس : ١٠/ ٩٥. [.....]
(٢) سورة هود : ١١/ ١٧.