البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣٨
سْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
: هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح. وناسب هذا أن من جعل اللّه له شريعة، أو قبلة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة :
الاستباق في أمر الكعبة رغما لليهود بالمخالفة. وقال ابن زيد : معناه : سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. وذكرنا أن استبق بمعنى : تسابق، فهو يدل على الاشتراك. إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ «١»، أي نتسابق، كما تقول.
تضاربوا. واستبق لا يتعدى، لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي، إذا بنيت من لفظ، معناه : تفاعل للاشتراك، صار لازما، تقول : ضربت زيدا، ثم تقول : تضاربنا، فلذلك قيل : إن إلى هنا محذوفة، التقدير : فاستبقوا إلى الخيرات. قال الراعي :
ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل سواكم فإني مهتد غير مائل
يريد ومن يمل إلى سواكم يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
: هذه جملة تتضمن وعظا وتحذيرا وإظهارا لقدرته، ومعنى : أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
: أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب، فأنتم لا تعجزونه، وافقتم أم خالفتم، ولذلك قال ابن عباس : يعني يوم القيامة.
وقيل : المعنى : أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم اللّه جميعا، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام، قاله الزمخشري. نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تقدم شرح هذه الجملة، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء، أي لا يستبعد إتيان اللّه تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة، فإن قدرة اللّه تتعلق بالممكنات، وهذا منها. وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها، فكان المعنى : إتيان اللّه بكم جميعا لقدرته على ذلك.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ : لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج، لأن قوله :
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة.
فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفرا في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام، ثم عطف عليه : وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، ليبين مساواتهم له في ذلك، أي في

_
(١) سورة يوسف : ١٢/ ١٧.


الصفحة التالية
Icon