البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣٩٥
بأولئك، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد، وليس تكريرا لموصول بالعطف مشعرا بالمغايرة في الذوات، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة، لا : إن الذين آمنوا، صنف وحده مغاير : للذين هاجروا وجاهدوا، وأتى بلفظة :
يرجون، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة، ولو أطاع أقصى الطاعة، إذ لا يعلم بما يختم له، ولا يتكل على عمله، لأنه لا يعلم أقبل أم لا؟ وأيضا فلأن المذكورة في الآية ثلاثة أوصاف، ولا بد مع ذلك من سائر الأعمال، وهو يرجو أن يوفقه اللّه لها كما وفقه لهذه الثلاثة، فلذلك قال : فأولئك يرجون، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة اللّه في الجهاد، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك، فهم يقدمون على اللّه مع الخوف والرجاء، كما قال تعالى : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «١».
وروي عن قتادة انه قال : هو لأخيار هذه الأمة، ثم جعلهم اللّه أهل رجاء، كما يسمعون، وقيل : الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته، لا في أصل الثواب، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق، و : رحمت، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها بالتاء هنا، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء، وهي سبعة مواضع كتبت : رحمت، فيها بالتاء. أحدها هذا، وفي الأعراف : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ «٢» وفي هود : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ «٣» وفي مريم ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ «٤» وفي الزخرف أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «٥» وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «٦» وفي الروم فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ «٧» وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما ذكر أنهم طامعون في رحمة اللّه، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة، وزاد وصفا آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران، فكأنه قيل : اللّه تعالى، عند ما ظنوا وطمعوا في ثوابه، فالرحمة متحققة، لأنها من صفاته تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار اللّه تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من اللّه تعالى، ومحذرين من عصى من عقاب اللّه، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها، ولأنها نتيجتها رضى اللّه عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه، وأنزل معهم كتابا من عنده مصحوبا بالحق

_
(١) سورة المؤمنون : ٢٣/ ٦٠.
(٢) سورة الأعراف : ٧/ ٥٦.
(٣) سورة هود : ١١/ ٧٣.
(٤) سورة مريم : ١٩/ ٢.
(٥، ٦) سورة الزخرف : ٤٣/ ٣٢.
(٧) سورة الروم : ٣٠/ ٥٠.


الصفحة التالية
Icon