البحر المحيط، ج ٢، ص : ٤٠
الشبهة، وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد. فقيل :
الأولى من قوله : فَوَلِّ وَجْهَكَ، نسخ للقبلة الأولى، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة، والثالثة للدّوام في جميع الأزمان. وقيل : الأولى في المسجد الحرام، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد. وقيل : الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة، والثاني إلى مكان لا ترى فيه، فسوى بين الحالتين. وقيل : الخروج الأول متصل بذكر السبب، وهو : وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، والثاني متصل بانتفاء الحجة، وهو : لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وقيل : الأول لجميع الأحوال، والثاني لجميع الأمكنة، والثالث لجميع الأزمنة. وقيل : الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام، والثاني : أن يكون خارجا عنه وهو في البلد، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض، فسوى بين هذه الأحوال، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد. وقيل : التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمر هذه القبلة، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، والثاني فيه شهادة اللّه بأن ذلك حق، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، فقطع بذلك قول المعاندين. وقيل : الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، بقوله : لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم اللّه أنها الحق، والثالث مقرون بقطع اللّه حجة من خاصمه من اليهود. وقيل : ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله : فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فأزال هذا الوهم بقوله : وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، أي ما حولناك لمجرد الرضا، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى، ثم أعاد ثالثا، والمراد : دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة. وقيل : كرر وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن، في أي مكان كان الإنسان، نائيا كان عنها، أو دانيا منها، وذلك في حال التمكن والاختيار، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة، وفي النافلة في حالة السفر، وعلى الراحلة في السفر.
لِئَلَّا يَكُونَ : هذه لام كي، وأن بعدها لا النافية، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم : أن لا تفعل أفعل.
وكتبت في المصحف : لا ما بعدها ياء، بعدها لام ألف، فجعلوا صورة للهمزة الياء، وذلك