البحر المحيط، ج ٢، ص : ٤٣١
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «١» فلا يجوز أن تكون هنا استفهاما، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف، ويدل عليه ما قبله، تقديره : أنى شئتم فأتوه، وكيف يشاء ينفق، كما حذف جواب الشرط في قولك : أضرب زيدا أنى لقتيه، التقدير أنى لقتيه فاضربه.
فان قلت : قد أخرجت : أنّى، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل :
كيف، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط، فهل الفعل الماضي الذي هو :
شئتم، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفا؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد : كيف، في قولهم : كيف تصنع أصنع؟.
فالجواب أنه يحتمل الأمرين، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفا صريحا، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف، وبينهما علاقة واضحة، إذ كل منهما على معنى : في، بخلاف : كيف، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها، فإنما قاله بالقياس، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها، حيث يقتضي جملة أخرى.
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مفعول قدّموا محذوف، فقيل : التقدير ذكر اللّه عند القربان، أو : طلب الولد والإفراط شفعاء، قاله ابن عباس، أو : الخير، قاله السدي، أو : قدم صدق، قاله ابن كيسان، أو : الأجر في تجنب ما نهيتم وامتثال ما أمرتم به، قاله ابن عطية، أو : ذكر اللّه على الجماع، كما
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم :«لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره».
أو التسمية على الوطئ، حكاه الزمخشري. أو : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وهو خلاف ما نهيتكم عنه، قاله الزمخشري، وهو قول مركب من قول : من قبله.
والذي يظهر أن المعنى : وقدّموا لأنفسكم طاعة اللّه، وامتثاله ما أمر، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدّم أمر ونهي، وهو الخير الذي ذكره في قوله : وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «٢» ولذلك جاء بعده وَاتَّقُوا اللَّهَ أي : اتقوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وهو تحذير لهم من المخالفة، ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به عنده، وهو العمل الصالح.

_
(١) سورة المائدة : ٥/ ٦٤.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ١١٠.


الصفحة التالية
Icon