البحر المحيط، ج ٢، ص : ٤٧
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام، بإتمام النعمة السابقة، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها، وجعل ذلك إتماما للنعمة في الحالين، لأن استقبال الكعبة ثانيا أمر لا يزداد عليه شيء ينسخه، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة. كما أن إرسال محمد صلى اللّه عليه وسلم هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ لا نبي بعده، وهو خاتم النبيين. فشبه إتمام تلك النعمة، التي هي كمال نعمة استقبال القبل، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل. وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب، وشرف واستمالة لقلوبهم، إذ كان الرسول منهم، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الذي يحجونه قديما وحديثا ويعظمونه.
رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ : فيه اعتناء بالعرب، إذ كان الإرسال فيهم، والرسول منهم، وإن كانت رسالته عامة. وكذلك جاء هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ «١»، ويشعر هذا الامتنان بأنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولذلك أفرده فقال : رَسُولًا مِنْهُمْ «٢»، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم، وهي كونه منهم، وتاليا عليهم آيات اللّه، ومزكيا لهم، ومعلما لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون. وقدم كونه منهم، أي يعرفونه شخصا ونسبا ومولدا ومنشأ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله. وأتى ثانيا بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه، الباقية إلى الأبد.
وأضاف الآيات إليه تعالى، لأنها كلامه سبحانه وتعالى، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة، وتنبع العلوم. وأتى ثالثا بصفة التزكية، وهي التطهير من أنجاس الضلال، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد اللّه تعالى توفيقه وقبوله للحق. وأتى رابعا بصفة تعليم الكتاب والحكمة، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان، باتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب اللّه تعالى، وما اقتضته الحكمة الإلهية. وأتى بهذه الصفات فعلا مضارعا ليدل بذلك على التجدد، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائما. وأما الصفة الأولى، وهي كونه منهم، فليست بمتجددة، بل هو وصف ثابت له. وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «٣» بأشبع من هذا، فلينظر هناك.

_
(١) سورة الجمعة : ٦٢/ ٢. [.....]
(٢) سورة البقرة : ٢/ ١٢٩.
(٣) سورة البقرة : ٢/ ١٢٩.


الصفحة التالية
Icon